قال رحمه الله: [لا مفترض بمتنفل].
أي: لا يصح أن يصلي المفترض وراء إمامٍ متنفل.
وهذه المسألة فيها قولان للعلماء: القول الأول يقول: يجوز أن يصلي المفترض وراء المتنفل.
وبهذا القول قال فقهاء الشافعية وجمعٌ من أصحاب الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمةُ الله على الجميع.
القول الثاني: لا يصح أن يؤم المتنفلُ المفترضين.
وبهذا القول قال جمهور العلماء من المالكية والحنابلة والحنفية.
أما الذين قالوا بصحة صلاة المفترض خلف المتنفل فاحتجوا بحديث معاذ الذي سبقت الإشارة إليه الثابت في الصحيح أنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم عشاءً، ثم ينطلق إلى قومه فيصلي بهم وهو متنفل وهم مفترضون.
وفي الرواية عن جابر: (هي له تطوع ولهم فريضة)، ووجه الدلالة أن هذا وقع من معاذ رضي الله عنه وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم وأقره على ذلك، فدل على صحة إمامة المتنفل بالمفترض.
وذهب الجمهور -كما قلنا- إلى عدم صحة إمامة المتنفل بالمفترض، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به إلى أن قال: فلا تختلفوا عليه)، فوجه الدلالة أن هذا نهي، فإذا كانوا ناوين للفريضة وراءه فقد اختلفوا عليه، وبناءً على ذلك لا يصح أن يوقع الفريضة مع إمام متنفل، ثم إن الفريضة أقوى من النافلة، وقد عهدنا بناء الضعيف على القوي لا بناء القوي على الضعيف، خاصةً أن الإمام ضامن.
ثم أجابوا عن حديث معاذ بوجوه، فقالوا: إن حديث معاذ محمول على أنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم النافلة ويأت قومه فينوي الفريضة.
وهذا مردود وباطل، خاصةً وأنه يصادم الراوية الصحيحة عن جابر أنه كان ينوي وراء النبي صلى الله عليه وسلم الفريضة ثم يصلي بقومه نافلة.
ولا يعقل أن معاذاً رضي الله عنه -وهو الفقيه- يضيع صلاته وراء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفريضة أفضل.
كما أجابوا -أيضاً- عن حديث معاذ بقولهم: سلمنا في حديث معاذ أن قومه مفترضون وهو متنفل، ولكن نقول: قد نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
ولذلك يقول فقهاء الحنفية أنه منسوخ.
وبناءً على ذلك لا يصلح للاحتجاج به لرواية السنن: (إما أن تصلي معنا أو تصلي مع قومك)، فقالوا: فهذا يدل على أن هذا الفعل منسوخ.
وهذا باطل؛ لأن الرواية متكلم في سندها، وبناءً على ذلك لا يسلم النسخ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية الصحيحة أنكر عليه الإطالة، ولم ينكر عليه إمامته بقومه وهو متنفل، وإنما قال: (أفتانٌ أنت يا معاذ؟)، ثم بين له السبيل الأمثل والسنة في إمامة الناس، فدل هذا على أن النبي صلى الله وسلم قد أقره على إمامته، وأن إمامته صحيحة، وأن هذا الفعل يعتبر في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من جهة الإقرار؛ أي أنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم إقراره، وعلى هذا يعتبر القول بجواز إمامة المتنفل للمفترض هو القول الراجح، فالصحيح أنه لا حرج للمتنفل أن يؤم المفترضين، ولهذه المسألة نظائر وصور منها: لو أنه دخل وراء متنفل فإن اتحدت صورة الصلاة فلا إشكال، وإن اختلفت فلا، وبناءً على ذلك لو أنه دخل والمتنفل يصلي التراويح فإنه يجوز له أن يصلي وراءه العشاء، سواءٌ أكان مسافراً فيسلم بتسليم الإمام أم كان مقيماً فبعد تسليمه من الركعتين يقوم ويأتي بركعتين كأنه مسبوق، وهكذا الحال بالنسبة لبقية الصور، أما لو اختلفت صورة الصلاتين، كأن تكون المغرب وراء العشاء، أو العشاء وراء المغرب فإنه لا يصح الائتمام في هذه الحالة؛ لأنه يؤدي إلى اختلاج الصلاة، والمحفوظ من إقراره عليه الصلاة والسلام إنما هو في اتحاد صورة الصلاتين، أما في الاختلاف فإنه لم يثبت، فيبقى الأصل في متابعة الإمام على ما هو عليه.
وأما ما استدل به من قال بالمنع من قوله عليه الصلاة والسلام: (فلا تختلفوا عليه)، فإنه محمول على الاختلاف في الأفعال، وليس المراد به الاختلاف في النيات؛ لحديث معاذ الذي دل على تخصيص هذا الأمر.