قال رحمه الله: [ولا تصح خلف مُحدِث].
قوله: [ولا تصح خلف محدث] عموم، سواءٌ أحدث حدثاً أصغر أم أكبر، وصورة ذلك أن يعلم المأمومون أن إمامهم محدث، فإن علموا أن إمامهم محدث فإنه لا يجوز لهم أن يأتموا به، ولو وقع الحدث أثناء الصلاة وتابعوه بركنٍ واحد بعد الحدث بطلت صلاتهم، وإنما يلزمهم بمجرد حدث الإمام أن ينووا مفارقته.
فلو أن إماماً تقدم، ثم أحدث أثناء صلاته وإمامته، سواءٌ في أول الصلاة أم في وسطها أم في آخرها قبل تمامها، فالذي يفعله الإنسان هو أنه إذا أمكن أن يستخلف فلا إشكال، لكن لو كان جاهلاً، أو لا يمكنه الاستخلاف فإنك تنوي المفارقة، وتنوي مفارقته كأنك منفرد، وتحتسب لنفسك ما كان من صلاتك، وبناءً على ذلك لو أحدث في الركعة الثانية وأنت في الظهر فتتم الثانية ثم الثالثة والرابعة وتسلم، وهذا إذا أحدث وعلمت بحدثه أثناء الصلاة، أما لو علمت بحدثه قبل الصلاة فلا يجوز لك أن تأتم بإمام محدث، وبناءً على ذلك لو ائتم به وهو يعلم بحدثه قبل الصلاة بطلت صلاته.
وهناك صورةٌ ثالثة وهي لو أن هذا الإمام كان محدثاً ولم يعلم المأمومون إلا بعد انتهاء الصلاة، كما لو قام إلى صلاة الفجر يظن أنه على غير جنابة، فتوضأ ثم صلى بالناس، وبعد أن سلم وانتهى تبين له أنه محدث، أو أحدث حدثاً أصغر ثم نسي أنه محدث، فتذكر أنه على طهارة ولم يذكر الحدث الذي بعد طهارته، ثم تقدم وصلى بالناس، وبعد أن صلى تذكر أنه أحدث قبل صلاته، فللعلماء في هذه المسألة قولان: القول الأول: إذا كان الإمام محدثاً ولم يعلم المأمومون بحدثه إلا بعد الصلاة فإن صلاتهم صحيحة.
وبهذا قال جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث.
أي أن الإمام إذا صلى بالناس ناسياً للحدث، ثم لم يتذكر إلا بعد انتهاء الصلاة فإن صلاة المأمومين وراءه صحيحة، ولو كان بعد تسليمه مباشرة.
القول الثاني: إن صلاة المأمومين فاسدة وتلزمهم الإعادة حتى ولو بعد سنوات وبهذا القول يقول فقهاء الحنفية رحمةُ الله على الجميع.
واستدل الجمهور على صحة صلاة المأمومين بما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأئمة: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأو فلكم وعليهم)، فوجه الدلالة من هذا الحديث أن قوله: (وإن أخطأوا فلكم) أي: لكم صلاتكم كاملة، (وعليهم) أي: عليهم خطؤهم.
وهذا عام يشمل خطأ الشروط وخطأ غيرها.
وبناءً على ذلك يقولون: إن هذا يدل على صحة الصلاة وراء الإمام المحدث.
وكذلك احتج الجمهور بإجماع الصحابة، وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه -كما روى مالك عنه في الموطأ- صلى بالناس الفجر ثم انطلق إلى مزرعته بالجرف بضاحية المدينة، فلما جلس على الساقية -على قنطرة الماء- نظر إلى فخذه فإذا هو بأثر الماء من الاحتلام فقال: ما أُراني إلا أجنبت وصليت وما اغتسلت.
فقام رضي الله عنه مباشرة واغتسل وأعاد صلاة الفجر بعد طلوع الشمس، ولم يأمر الناس بالإعادة، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضوان الله عليهم.
فهذه سنةٌ راشدة عن خليفةٍ راشد في نفس المسألة المتنازع عليها، ولم ينكر عليه أحدٌ من فقهاء الصحابة وأجلائهم، وبناءً على ذلك فكأنه إجماع منهم أن الإمام إذا صلى بالناس وهو لا يعلم بحدثه فإن صلاتهم صحيحة، ولا تلزمهم الإعادة.
وأما الذين قالوا بأنه تلزمهم الإعادة فإنهم احتجوا بما جاء عن علي رضي الله عنه أنه صلى بالناس الفجر، ثم رأى أثر الاحتلام، فأمر منادياً أن ينادي في الناس بإعادة صلاة الفجر.
ووجه الدلالة أن علياً أعاد الصلاة، ولم تكن الإعادة لازمة حتى ألزم الناس بها.
والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بعدم الإعادة، وأن الصلاة صحيحة؛ لظاهر الأدلة من السنة والآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم، وأما ما احتج به أصحاب القول الثاني من أثر علي ففيه كلام، ولو صح فإنه معارض بما هو أقوى، ويحتمل أن علياً لم يبلغه حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ونقول: إن فعل علياً قد عارضه فعل عمر، ولا شك أن عمر رضي الله عنه محدَّثٌ ملهم مقدم؛ لأنه إذا تعارضت آراء الصحابة نظر إلى الفضائل، ففضل عمر رضي الله عنه لا شك أنه مقدمٌ على فضل علي رضي الله عن الجميع.
وبناءً على هذا فإن الذي يترجح هو القول بصحة الصلاة، وأن المأمومين لا تلزمهم الإعادة، ودرج على هذا المصنف رحمه الله، وهو قول الجمهور كما قلنا.