إنما يصار إلى الترجيح باستصحاب قاعدة حينما لا يكون في المسألة ما هو من الدليل اللفظي البين، فحينئذ يرجح باستصحاب قاعدة، وهنا النفس والبيئة وبعض المعطيات قد تؤثر في اختيار القواعد؛ لأن بعض القواعد أحياناً تكون مؤثرة في إغلاق المسألة، وبعض القواعد تؤثر في التوسعة في المسألة.
فمثلاً: استصحاب قاعدة (سد الذرائع) فحينما لا يكون هناك دليل بين من الأدلة اللفظية نجد أن الإمام أو الفقيه قد يذهب إلى قول ويقول: سداً للذريعة، وإذا سئل عن شيء هل يجوز أم لا يجوز؟ قال: لا يجوز سداً للذريعة.
كذلك استصحاب قاعدة (المشقة تجلب التيسير)، أو قاعدة (الأصل الجواز)، فهذا يجيز بحجة أن الأصل الجواز، والآخر يمنع بحجة سد الذريعة، فليس عنده نص بين ليمنع به ولكنه منع بقاعدة سد الذريعة، والآخر أجاز بحجة أن الأصل الجواز أو براءة الذمة، أو ما إلى ذلك.
ومن الأمثلة على ذلك: مسألة الأسهم، نجد أن بعض طلاب العلم إذا سئل عن حكم الأسهم يقول: ليس فيها خير ولا فائدة، فهي إما محرمة أو مشتبهة، وسداً لذريعة الربا أمنع الأسهم، مع أن المنع بهذا النظام ليس تطبيقاً حكيماً لقاعدة سد الذرائع، نعم ..
هي قاعدة صحيحة، لكن الخطأ هو في تطبيقها.
كذلك قد يُسأل البعض عن كثير من الأسهم والمعاملات فيقول: افعل ولا حرج، ولا بأس بذلك، لأن هذه معاملات، وما دام أنه ليس هناك شيء صريح واضح عندي الآن فالأصل في المعاملات الحل.
والإشكال هو أنه لم يتصور المسألة تصوراً صحيحاً، فالوسطية هنا في تطبيق هذه القواعد هي المقصودة.
وليس المقصود من هذا أن تلغى قاعدة سد الذرائع أو استصحاب الأصول، بل الفقيه هو من يستعمل هذا وهذا.
ومما يدل على عدم حسن الفقه في تطبيق هذه الأصول والقواعد: اطراد بعض الفقهاء أو طلاب العلم على تطبيق قاعدة واحدة وترك القواعد الأخرى، فبعض الناس دائماً عنده سد الذرائع، أما قاعدة الأصل الإباحة، أو المشقة تجلب التيسير ..
ونحوها، فلا يلتفت إليها، وبالمقابل من تميل نفسه إلى التيسير - مع أن كلمة (التيسير) في أصلها كلمة شرعية، لكن قد تستعمل كاصطلاح بما هو مخالف أحياناً لحقيقتها الشرعية - فتجد أنه ربما قلَّّل من شأن تلك القواعد أحياناً بحرف أو بآخر.
إذاً: الترجيح باستصحاب أصل أو قاعدة من حيث الأصل مناط للترجيح، لكنه يحتاج إلى فقه، وإلى ضبط وتوسط، ومعرفة متى تطبق هذه القاعدة أو تلك، فقاعدة سد الذرائع تطبق في مسائل لها قدرها، كالمسائل المتعلقة بتوحيد العبادة، مثل شد الرحال لزيارة قبور الأولياء، أو زيارة قبور الأعيان، فهذا يبين أن هذا لا أصل له، فإذا تعلق الأمر بجناب التوحيد فإن هذه القاعدة تكون من أخص القواعد في التطبيق، وأما في مسائل أخرى مبناها عند الشارع على التوسعة والتخفيف فلا تمنع بحجة سد الذرائع.