من مناطات الترجيح: الترجيح بالأحوط، وهذه الطريقة كانت لبعض الفقهاء، وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله عليها تعليقاًَ حسناً، وقال: إن هذا ليس من الأصول التي يصح طردها، فنجد أن البعض في الخلاف يرجح بالأحوط، مع أن الأحوط في كثير من الموارد أو في أكثرها يكون هو الأشد.
فمثلاً: إذا سألته امرأة - ومناطات الترجيح تؤكد على من هو محل الفقيه الذي يفتي الناس في أبواب ومسائل الفقه - فإذا سألته امرأة عن زكاة الحلي، وأن عندها حلياً فهل تزكيه أو لا تزكيه؟ ثم تذكر أن زوجها مثلاً - وهكذا تأتي أسئلة العامة - يقول: لا تزكي، ولا يمكنها من الزكاة، وإذا أرادت أن تزكي فليس عندها مال، فتضطر إلى أن تبيع بعض هذا الذهب برخص فتنزل قيمته
إلخ، ولسنا بهذا نريد أن نقول: إن من كانت صورته كذلك فإنه لا يزكي؛ فإن الزكاة حكم شرعي، لكن الذي أقصده أن كثيراً من حالات العامة تحتف بهذه الأمور، فإذا كان المجيب يرجح أن حلي النساء المستعمل فيه زكاة، فقال: يجب عليك أن تؤدي الزكاة؛ فهذه إجابة صحيحة، وهذا منطق لا إشكال عليه، لكن أحياناً لا يكون عنده وضوح في المسألة، وربما أنه قد يميل إلى قول الجمهور، لكن يقول: من طريقتي أنني إذا سئلت عن زكاة الحلي فأقول: زكي، فإن كان عليكِ زكاة فقد أديتِ الزكاة، وإن لم يكن عليكِ زكاة فهي صدقة في هذا اليوم المبارك أو في هذا الشهر المبارك.
فالترجيح بمثل هذه الطريقة فيه تضييق على الناس، وإذا كان الإنسان هنا لم يستتم له فقه فهو مخير بين أحد أمرين: إما أن يحكي الخلاف باختصار، فيقول: قال بعض العلماء: إن فيه زكاة، وقال بعض العلماء: إنه ليس فيه زكاة، وإما أن يتوقف عن الجواب.
وقد يقول قائل: ألم يكن بعض الفقهاء يذكرون الأحوط؟ فيقال: كثير من العوام لا يعرف الفرق بين قولك: الصحيح، وبين قولك: الأحوط، بل هو يفهم في الأخير أنك أمرته بالزكاة، ولذلك لو قيل لهذا العامي أو لهذه المرأة: هل تزكين؟ لقالت: نعم، ولو قيل لها: هل ذلك لازم بإجماع العلماء؟ لقالت: لا أدري عن هذا الموضوع، المهم أنهم يقولون: إن فيه زكاة، وهذا الحكم هو الذي يريده العامي أن تقوله له، وعليه فلابد أن يكون هذا على محل المراعاة.
وهل معنى هذا أن الترجيح بالأحوط دائماً يكون متروكاً؟
الجواب: لا؛ بل ربما استعمل ذلك في مسائل ليس فيها مشقة على الناس أحياناً، فيكون أضبط لدينهم أو لحرماتهم ونحو ذلك، وكذلك الترجيح بالأحوط في حق النفس، فهذا أيضاً باب لا بأس أن الإنسان يستعمله مع نفسه فيأخذ هو بالأحوط، لكن أن يكون منهجه أن يدين الناس بقصد الأحوط من الأقوال، وليس بقصد الأقوى والأظهر في السنة، فهذا منهج ليس حكيماً.