الجهة الأولى: ماهية الترجيح:
إن ماهية الترجيح -أي حقيقة الترجيح- هي: تقديم المحتمل الأقوى في النظر، أي: في نظر المستدل، ويقابل الراجح: المرجوح، وحينما يقال: إنه تقديم للمحتمل الأقوى، أو تقديم للظني الأقوى؛ فإنه من المعلوم أنه في نفس الأمر عند عامة أهل النظر والفقه - بل حكي الإجماع عليه عند السلف -أن حكم الله سبحانه وتعالى في المسألة واحد، هذا أصل معروف عند السلف، ومع ذلك فإن الفقهاء إذا تردد قولهم على أكثر من قول فإن هذا الاحتمال يتعلق بهذه الجهة، لا بجهة الحكم في نفس الأمر، فإن الحكم في نفس الأمر واحد.
وهل هذه الدرجة من الاحتمال تجعل عمل الناظر بالقول الذي رجحه ليس عزماً في التدين؟
الجواب: لا؛ بل يعزم بالفعل عند تدينه لله سبحانه وتعالى؛ ولذلك فإن من يذهب إلى فعل من الأفعال فإنه يعزم به، ومن لا يذهب إلى هذا الفعل من الفقهاء فإنه لا يعزم به، فعند الفعل - أي: التعبد لله بالعمل - فإن المستدل هنا يعزم بفعله، لكن إذا تعلق الأمر بجهة القطع بقوله دون قول غيره من أهل العلم، فإن هذا لا يحصل فيه عزم.
ولهذا فإن الماهية تتجاذبها بعض الترددات، فالماهية التي نتكلم عنها هنا هي الترجيح بين أقوال المختلفين، ولسنا نتكلم عن ماهية الحكم في نفس الأمر، ومن هنا قيل: إن ماهية الترجيح تقديم الأقوى، وإلا فإن الحكم في نفس الأمر واحد، وحتى من جهة الفعل، فإن المكلفين يعزمون بفعلهم الذي رأوا أنه الظاهر بحسب اختلاف أئمتهم ونحو ذلك.
وقولنا: الترجيح، أفصح من قولنا الراجح؛ لأن الترجيح هو فعل المفاضلة بين الأقوال المختلفة، فماهية الترجيح: هي تقديم الأقوى في النظر، أي: في النظر الشرعي بمجموع الأدلة، والذي يقابل الراجح هو المرجوح فالمقدم هو الراجح ويقابله المرجوح، وقولنا: إنه تقديم للأقوى، لا ينافي أن حكم الله في المسألة واحد، ولا ينافي أن المكلف يعزم بالفعل، بل يعزم به؛ لأنه قد اختاره وذهب إليه.