المدرك الأول: الفقه في لسان العرب، ومما ينبه إليه في هذا المدرك أن الاعتبار بالسياق وليس بمجرد اللفظ المفرد المطلق، فمثلاً: حديث: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك، ويمس من الطيب ما قدر عليه)، فمن اعتبر الكلمة المفردة لم يأخذ إلا كلمة (واجب)، لكن من اعتبر السياق فقرأ الحديث من حيث هو -وهذا قبل النظر في مقاصد الشريعة- ففيه قوله: (وسواك ويمس من الطيب ما قدر عليه)، فالسواك والطيب معطوفان على الغسل، فسيكون التقدير: وسواك واجب على كل محتلم، ولا يوجد أحد يقول بأن السواك والطيب واجب، ومن هنا نعلم بذكر السياق للسواك والطيب أن الوجوب هنا ليس المقصود به الإلزام، فهذا ما نسميه بفقه السياق، وهذا مثال عليه.
إذاً: الاعتبار يكون بالسياق المركب وليس باللفظ المفرد المجرد، ونحن هنا لا نريد أن ننفي أهمية فقه الكلمات المجردة والمصطلحات المفردة، لكنها ليست وحدها هي التي تحكم، بل الذي يحكم هو السياق المركب.
ومما ينبه إليه هنا: أن السياق ليس نظماً رياضياً؛ لأنه من المعلوم أن الأصوليين كتبوا مسائل في فقه الألفاظ، فجعلوا للعموم صيغاً، وجعلوا قواعد فيما هو أكثر تردداً من ذلك، مثل قاعدة: الأمر للوجوب إلا إذا صرفه صارف، فلا ينبغي أن تؤخذ مثل هذه القاعدة أخذاً رياضياً تجريدياً، فإذا ورد أمر قيل مباشرة: واجب؛ لعدم وجود صارف نصي صريح في الصرف؛ لأن البعض لا بد أن يكون الصارف عنده دليلاً معيناً للصرف، وكذلك قاعدة: الأصل في النهي التحريم إلا بصارف.
ومن هنا فمن يأخذ هذه القواعد أخذاً تجريدياً نجد أنه يخرج أحياناً إلى أقوالٍ شاذة، وقد يخالف الإجماع وهو لا يدري، وليس معنى هذا أنه لا يقال: الأصل في الأمر الوجوب؛ فإن هذه القاعدة قد ذكرها المتقدمون كـ الشافعي رحمه الله، فضلاً عمن جاء بعده، فلا بأس أن يقال -بل هو الصحيح-: أن الأصل في الأمر الوجوب، فهذه قاعدة لا جدال فيها ولا تردد، وإنما المقصود الفقه في مثل هذه القاعدة، فإذا قيل: الأصل في الأمر الوجوب إلا بصارف، فيقال: هذه القاعدة صحيحة إذا فقه الصارف.
مثال ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- عن صبغ الشيب وتغييره: (إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم)، فقوله: (فخالفوهم) أمر، وليس في سياق مفرد فقط، بل أمر في ذكر مسألة ترك التشبه، فكأن هذه قد تكون قرينة تؤكد أن الأمر للوجوب، ومع ذلك فقد حكي الإجماع على أن تغيير الشيب ليس واجباً.
كذلك حديث: (صلوا في نعالكم فإن أهل الكتاب لا يصلون في نعالهم)، ومع ذلك لم يكن ذلك على الوجوب، كذلك السحور، قال عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيح-: (تسحروا فإن في السحور بركة)، وذكر أيضاً أنه فرق بين المسلمين وبين غير المسلمين فقال: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر)، ومع ذلك حكي الإجماع على أن السحور ليس واجباً.
وقد يقول قائل: ما هو الصارف هنا؟ فنقول: هنا يأتي فقه الاستقراء، ولذلك من أخذ هذه القاعدة وأراد طردها إلا أن يبين له صارف يراه ببصره معيناً على حدود علمه، أن يكون الصارف نصاً معيناً حرفاً صريحاً بالصرف، فهذا يقصر فقهه كثيراً.
هذا هو المدرك الأول، وهو: الفقه في لسان العرب، سواء في باب الخبريات، أو في باب الطلب، فالنصوص الخبرية مثل حديث: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، فهذا نص خبري، فلأجل أن الصحابة يفقهون لسان العرب لم يفقهوا منه التكفير، والعرب قد تعبر بمثل هذه العبارات المغلظة لوجه ما، ولذلك لما فسد الذوق في فقه لسان العرب حصل الضلال في بعض مسائل أصول الدين.