المرتبة الثالثة: ما حفظ فيه قولٌ لآحاد لكنه شاذٌ عن قول العامة من أئمة الأمصار:
(لآحاد) أي: لأعيان، كواحد أو اثنين أو ثلاثة ونحو ذلك، وقولنا: (ما حفظ)، أي: ما عرف وثبت فيه قول لآحاد، لكنه شاذٌ عن قول العامة من أئمة الأمصار، حتى إن بعض هؤلاء الأئمة قد يحكون الإجماع، وهذا ليس من شرط هذه المرتبة، فسواء حكي فيه الإجماع أو لم يحك فيه الإجماع، فإن المقصود هو أن قول عامة أئمة الأمصار على شيء وذهب واحد من العلماء إلى قول آخر، كقولهم مثلاً: لم يخالف في هذه المسألة إلا القاسم، أو لم يخالف إلا داود بن علي، أو لم ينقل الخلاف إلا عن عطاء أو النخعي، فإذا كان أئمة الأمصار -أعني أئمة الحجاز ومكة والمدينة وأئمة الشام وأئمة أمصار العراق البغداديين والكوفيين والبصريين وأئمة خراسان- إذا كان قد استفاض القول عنهم بمذهب واحد، ولكن حفظ عن بعض الآحاد -كالقاسم أو عروة أو داود بن علي - فيما بعد قول، فهذا القول يسمى قولاً شاذاً، وهذا هو الشاذ من أقوال الفقهاء.
ومما ينبه إليه: أنه لا ينبغي في أكثر المجالس كمجالس الإفتاء وما إلى ذلك -وأقول: في أكثر المجالس وليس بالضرورة في كل المجالس- لا ينبغي في أكثر المجالس البعث للأقوال الشاذة، بل إن هجرها هو أولى، لكن أحياناً تحت نظام علمي عالٍ يقال: إن المسألة فيها قول لبعض الناس؛ وذلك لأجل أن يعذر في قول ذلك، وفي باب العذر هل مخالف الإجماع المنضبط كمخالف الإجماع غير المنضبط؟
الجواب: لا، ولذلك فإن الإجماع المنضبط، والإجماع غير المنضبط، وقول العامة الذي خالفه شاذ، الفرق بينها مهم من جهة المخالف، فإن مخالف الإجماع المنضبط حكمه شديد، ومخالفة الذي تحته دونه، ومخالفة قول العامة لقول شاذ هذا أقل، وهذا من الفقه البين.
ولذلك يقول ابن المبارك رحمه الله -وهذا من فقهه-: إني لأسمع الحديث فأكتبه وما بي أن أعمل به، ولا أن أحدث به، ولكن أجعله عدة إن عمل به أحد من أصحابي قلت: عمل بحديث.
فنظام العذر يعتبر نظاماً فقهياً في الإسلام.