-المعتبر الرابع: الطبيعة والتكوين الذاتي:
إن الله سبحانه وتعالى خلق الناس متفاوتين، فبعض الناس أعطاه الله سبحانه وتعالى سعة في الفقه، وبعض الناس أوتي حفظاً ولم يؤت فقهاً، وبعض الناس أوتي فقهاً ولم يؤت حفظاً، فمثلاً: لو قارنا ابن المديني بـ أبي حنيفة رحمهما الله، فسنجد أن ابن المديني لا يصل إلى درجة أبي حنيفة في الفقه، وأن أبا حنيفة لا يصل إلى درجة ابن المديني في الحفظ، مع أنهم أئمة سابقون، وهذا كمثال بسيط بين الإدراك.
وكذلك اليوم لابد من اعتبار هذا الأمر في طالب العلم أو الفقيه أو من هو فوقه، ولذلك فإن من عقل الإنسان واعتداله مع نفسه أن ينظر فيما آتاه الله، فإن كان لم يؤت فقهاً وحكمة، بل يرى في طبيعته العجلة والاصطدام مع نفسه كثيراً، ومع أسرته، ومع من حوله، ويرى في طبيعته قدراً من النقص البين، لكنه ربما أوتي حفظاً، فالأولى له أن ينصرف في مسار معين من العلم، فإن بعض الناس مثل الوعاء الذي يحفظ الماء، فيشرب منه الناس وينتفعون به، فإن الأمة بحاجة ولا تزال بحاجة إلى أنواع شتى من العلوم والمعارف، ومن السوء ما أثير من قضية التمانع بين الحفظ والفهم، فهؤلاء يحفظون ولا يفقهون، وهؤلاء يقولون: الفقه أهم، مع أن الإسلام ليس فيه حفظ فقط أو فقه فقط؛ بل إنهما متلازمان، وإذا لم يكن طالب العلم يحفظ كثيراً من النصوص فمن أين يفقه؟ فإن الفقه فقه النصوص، وكذلك ليس في الإسلام حفظ فقط؛ لأن من حفظ وهو لا يدري ماذا حفظ بمنزلة الأعجمي الذي حفظ كلاماً وهو لا يدري ما معناه.
إذا كان كذلك فلابد أن نلاحظ أموراً:
أولاً: إذا اتجه الإنسان لطلب العلم فلابد أن يختار ما أعطاه الله، ولا يتمانع مع طبيعته، فإنه ليس من الذكاء ولا من الحكمة أن يتمانع الإنسان مع طبيعته، وقد جاء في الحديث: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف).
ثانياً: لابد أن يُنظر في طبيعة من يجيب، سواء كان طالب علم أو فوق ذلك، ولذلك من أنواع التعصب اليوم: أن أصحاب المزاج الحار أو الذين عندهم ردة فعل من شيء معين -سواء كان هذا الشيء علمياً أو غير ذلك- تجد أنهم يعشقون طلاب علم أصحاب مزاج حار مثلهم، فيلتقي معه ويتتلمذ على يديه ويشيخه وما إلى ذلك، وبالعكس فإن بعض الناس أصحاب النفوس الباردة -إن صح التعبير- أو المجاملة نجد أنه ينضوي تحت رجل على هذه الطبيعة، وقد يكون أصل هذا التوافق فطرياً؛ ولا يقال: إن هذا نوع من الشذوذ في طبائع الناس، لكن المقصود أن الطبيعة لا تهيمن على الدين؛ بل إن الدين هو الذي يهيمن على الطبيعة البشرية؛ ليجعلها متوافقة مع مقاصده وتعاليمه.
ولنضرب لذلك مثلاً: أفضل رجلين في الإسلام -بعد النبي صلى الله عليه وسلم- هما: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، إذا نظرنا في طبائعهما وجدنا أنهما يتفقان في أمور كثيرة، ولكن أبو بكر يغلب عليه اللين، ويغلب عليه الصفح والعفو والهدوء والتسامح، وليس معنى ذلك أن عمر ليس عنده هذه الصفات، بل إن هذه الصفات موجودة عند عمر رضي الله عنه، ولكن يغلب عليه طبيعة القوة والعزم والحزم في بعض الأمور والصراحة، وعدم تفويت أي مقام على بعض الناس، وهذه كلها لها مقامات معلومة، فمتى قام أبو بكر رضي الله عنه بالسيف وقال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق؟ فإن هذه أحوال إذا بحثنا عنها قد نجدها شبه نادرة، لكن عمر رضي الله عنه كان هذا الأمر ظاهراً في طبيعته وشخصيته.
فمثلاً: في مسألة أسارى بدر، أول مسألة لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها وحي، فاستشار فيها استشارة صريحة، فدعا أبا بكر وعمر وقال: (ما ترون في شأن هؤلاء الأسرى؟)، فقال أبو بكر: يا رسول الله! هم -أي: الأسرى- بنو العم والعشيرة.
انظر إلى الكلمات وإلى الطبيعة عند أبي بكر، وقد نسميها كلمة تخفيف عن أولئك الأسرى، قال: هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فأسأل الله أن يهديهم إلى الإسلام.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ترى يا ابن الخطاب؟) فقال: كلا والله يا رسول الله! -هذا أول الإجابة- ما أرى الذي رأى أبو بكر.
وانظر إلى العزم عند عمر، فلم يقل: أرى أن يقتلوا؛ بل قال: ولكن أرى أن تمكنني من فلان -وهو نسيب لـ عمر - فاضرب عنقه، وتمكن علياً - مع أن علياً ما حضر المجلس، ومع أنه رأى أن النبي صلى الله عليه وسلم تأثر في شأن عقيل؛ لأن عقيلاً ابن عمه- وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها.
هكذا خلق الله النفوس متفاوتة، وفي كلٍ خير، والسؤال هنا: هل تكلم أبو بكر وعمر من باب الطبيعة والمزاج؟ والجواب: لا، بل إن الشريعة مهيمنة على كليهما، فإن مناطات أبي بكر مناطات شرعية معتبرة في الشريعة؛ فإن الفدية تكون قوة للمسلمين على الكفار، وهذا مناط شرعي صحيح، وكذلك قوله: عسى الله أن يهديهم للإسلام، هذا مناط شرعي صحيح، فمناطاته الشرعية صحيحة توافقت مع طبيعته.
كذلك عمر رضي الله عنه لم تحركه طبيعته ومزاجه، فلم يقل: أرى أن تمكننا منهم فإن سفك الدم فخر أمام العرب، ولو قال ذلك لأصبحت الطبيعة مهيمنة، لكنه قال: إن هؤلاء أئمة الكفر، فهو ينطلق من مبدأ الولاء والبراء، فإن قوله: هؤلاء أئمة الكفر، مناط شرعي صحيح، فلم يقل: حتى تفخر بنا العرب، كما قال أبو جهل: لنبلغن بدراً ونشرب الخمر، فإن هذا مناط طبيعة أبي جهل الخامرة الطاغية.
ومن هنا فإن نزع الطبيعة من الإنسان أمر مستحيل، لكن المهم هو أن تكون الشريعة مهيمنة على الطبيعة، وإذا هيمنت الشريعة على الطبيعة فإن هذا هو تحقيق {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة:48]؛ لأن الإسلام كما هو بحاجة للقوي فهو بحاجة للين.
ولذلك فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا نجد فيهم الطبائع الخاصة، بل نجد أن عندهم توازناً في الطبائع، فنبي هذه الأمة يوصف بالرحمة ويوصف بالقوة، وهو نبي الملحمة ونبي الرحمة، والملحمة هي السيف والقتال، ويقول عليه الصلاة والسلام: (بعثت بالسيف)، ويقول الله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً} [الأنبياء:107] ونحو ذلك، لكن الناس من بعد الأنبياء ليسوا مثلهم في توازن الطبائع، والعاقل الفاضل الحكيم هو الذي يعرف مجال كل طبيعة ونسبتها من الشريعة.
والخطأ والانحراف إنما ينشأ حينما تهيمن الطبيعة عند بعض الناس على الشريعة، فيطوع الشريعة لذوقه، فالحار لا ينتج إلا رأياً حاراً، والحاد لا ينتج إلا رأياً حاداً، والمجامل أو المتميع كما يصطلحون -مع أني لست ممن يعشق كثرة المصطلحات والتصنيفات- لا ينتج إلا رأياً كذلك.
إذاً: من أدق الأمور التي ينظر الإنسان فيها لنفسه أن ينظر فيمن يلزم غرزه، وليس من الحكمة ولا من العقل أن يختص الإنسان بشخص على مثل هذا الوجه، ويقول: الأرواح جنود مجندة؛ فإن هذا ليس من الحكمة؛ بل الحكمة أن يلتمس الإنسان العلم في أهله، وأن يعود نفسه ويروضها -كما كان الصحابة- على أن تكون الشريعة هي الحاكمة للطبيعة، وإذا وصل الإنسان إلى هذا فقد وصل إلى خير كثير.