إن الفصل المطلق بين فقه المتقدمين وفقه المتأخرين ليس فصلاً حكيماً، ولا شك أن هذا لا يستلزم التسوية بين المتقدمين وبين المتأخرين، فإن فقه المتقدمين من حيث الأصل أجود من فقه المتأخرين، وهم - أي المتقدمون - أئمة الاجتهاد، وأئمة الرواية، وأئمة الفقه، وهذا لا أحد يجادل فيه، فليس المقصود هو أن نسوي بين المتقدمين والمتأخرين في الرتبة، بل المقصود هو أن ما يذكره المتأخرون بسائر طبقاتهم ودرجاتهم العلمية من محققين وغيرهم كأنه فقه منفك في الاتصال عن فقه المتقدمين، فهذا الانفكاك المبالغ فيه لا يصح فرضه، وإلا فإن العناية بكتب المتقدمين، ومعرفة أن لهم امتيازاً عن المتأخرين في فقه الدليل ونحو ذلك، هذا لا أحد يجادل فيه، وقد سبق أن ذكرنا أن أخص ما امتاز به المتقدمون في الدليل هو فقه دليل الاستقراء، فلا شك أن هناك امتيازات امتاز بها المتقدمون عن المتأخرين، لكن المبالغة في الفصل لا يصح.
فالامتياز أمر موجود، لكن الامتياز الذي يصحح وجوده ينبغي أن يحصل بعقل وحكمة وليس بتكلف.
أحياناً يطلق بعض طلاب العلم كلمات مثل قولهم: هذه طريقة المتقدمين، وهذه طريقة المتأخرين، ويكون ذلك بنوع تكلف، وأحياناً بشيء غير منضبط في البحث، إنما قد يعرض له مثال فيقول: هذه طريقة المتقدمين، فمثلاً: يجد قول الإمام أحمد: يا بني! هذا محدث، فيقول: طريقة المتقدمين أن ما خالف الراجح عندهم فهو محدث، ويستدل بقول الإمام أحمد، وهو قول صحيح، لكن ذلك يحتاج إلى فقه وإلى منهج منضبط.
فالتكلف والتسرع في تحديد الامتيازات بين المتقدمين والمتأخرين مرتقى صعب، لا ينبغي أن يكون فيه تكلف ولا أن يكون فيه تسرع.