ولما جاءت مثل هذه الطوائف التي أنكرت الأسباب كانت هي السبب في تأخر المسلمين زمناً طويلاً جداً عن الاكتشافات المعاصرة، فهل نظن أن الغربيين أذكى عقولاً، وأزكى نفوساً، وأكبر تصوراً من المسلمين؟! بل هم أقل شأناً منهم في الذكاء وفي الفهم وفي التصور.
فالرجل الغربي ثلث عقله يضيع في المخدرات، وجزء آخر يضيع في الشذوذ الجنسي والأهواء والشهوات، ولا يفكر إلا بنسبة يسيرة من عقله، لكنه فكر بنسبة يسيرة من عقله تفكيراً سليماً، من ناحية أنه استفاد من الماديات المعاصرة، وفهم معنى الأسباب.
ولما وجدت هذه الطوائف -مثل الصوفية ومثل الجهمية- وعمت مناهجها في حياة المسلمين، وصارت هي المهيمنة والمسيطرة، وصارت دول الإسلام قبل ظهور العالم الغربي تتبنى مثل هذه العقائد وتنشرها في الناس، لم يتعاط الناس هذه الأسباب، فماذا سيحصل في أمة ترى أن ترك الأسباب هو التوحيد؟! فهل تتصور أن مثل هذه الأمة سينشأ فيها علماء عباقرة يستطيعون أن يكشفوا الأحداث التي من حولهم ويستطيعون أن يخترعوا وأن يطوروا المخترعات؟! هذا بعيد؛ لأن من التوحيد ترك هذا الشيء، وهكذا عمل التصوف، ونخر في جسم الأمة الإسلامية إلى هذه الدرجة.
فالدولة العثمانية قبل ظهور العالم الغربي -أي: قبل الحرب الكونية السابقة، الحرب العالمية الأولى والثانية- كانت تتبنى التصوف، وتتبنى العقيدة الماتريدية، وهي نفسها عقيدة الأشاعرة، والتصوف والماتريدية يجتمعان في إهمال الأسباب، ولهذا بقي العثمانيون سنين طويلة لا يتعاطون الأسباب في المخترعات المعاصرة، في الوقت الذي كان العالم الغربي فيه يتعامل مع الأسباب بشكل جدي، وليس منهج التصوف ومنهج الماتريدية هو منهج الإسلام، وإنما منهج الإسلام هو الاستفادة من الأسباب الموجودة في الأرض، واعتقاد أنها من مخلوقات الله عز وجل، ولا يعني كوننا نستفيد من هذه الأسباب أن ننسب لها الخلق، فالخلق لله عز وجل، وهذه الأسباب مخلوقة، لكن نعتقد أن هذا الكون مركب من أسباب ومسببات، والأسباب والمسببات هذه جميعاً من خلق الله عز وجل، فإذا تعاطينا السبب واستفدنا منه فلا يعني هذا أننا نسبنا إلى السبب الخلق والتأثير بأي وجه من الوجوه، فأنا أعتقد أن السبب مخلوق، فكيف أنسب له الخلق؟! فلا يمكن أن أنسب إليه الخلق، لكن أعتقد أن الله سبحانه وتعالى أمرني باتخاذ السبب والاستفادة منه، ولهذا يقول في قضايا الجهاد: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60]، فما هو معنى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]؟! يعني: نموا أنفسكم، وقووا أنفسكم، وتعاطوا الأسباب، واصنعوا السلاح، ورتبوا أنفسكم، ونظموا أنفسكم بشكل صحيح، بحيث تقاتلون العدو فتنجحون بإذن الله عز وجل، لكن إذا ما تعاطينا الأسباب، فما اتخذنا القوة، وما تعاملنا معها بشكل صحيح، فلن نستطيع أبداً أن نهزم عدونا، وسيدخل علينا العدو ويقتلنا، ونحن لا نتعاطى شيئاً من هذه الأسباب.
ولهذا كان للبدع تأثير عظيم جداً في حياة الأمة لا يدركه إلا من يدقق، ولا شك في أن الدولة العثمانية كانت لها جهود عظيمة جداً في حماية بيضة الإسلام العامة، وكان لها جهود عظيمة جداً في نشر الإسلام، وتوضيح الحق للناس إلى درجة كبيرة، لكن عندما توجد بدعة من البدع في المجتمع المسلم وتنخر فيه تكون هي السبب في الهزيمة، فإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم -على فضلهم وعلى مكانتهم وعلى منزلتهم العظيمة- هزموا يوم أحد بمعصية واحدة فقط، فما بالنا بغيرهم؟! ولهذا يقول الله عز وجل عنهم: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، فيهزم الإنسان إذا فرط وإذا أخطأ، حتى ولو كان له فضل عظيم من جهة أخرى، وهذا يدعونا إلى الاجتهاد في البعد عن التفريط بكل صوره وأسبابه.