الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فقد سبق الكلام عن الطائفة الثانية من طوائف الضلال في القضاء والقدر من الجبرية، وقلنا: إن الطائفة الثانية قسمت الناس إلى عامة وخاصة، وقالوا: إن الخاصة هم الذين تسقط عنهم التكاليف، وذلك أن الإنسان إذا اجتهد في العبادة -كما يظنون- وتعمق فيها وصل إلى التحقيق واليقين، ويفسرون اليقين بأنه العلم الذي يسقط عنهم به التكاليف العبادية، ويقولون: إن هذه العبادات العملية ليس المقصود منها الفعل في نفسه، وإنما المقصود منها الوصول إلى هذه الدرجة العظيمة، وهي سقوط الأعمال، فإذا قيل لهم: إن الرسل الكرام لم تسقط عنهم هذه الأعمال، أجاب بعضهم بأن الرسل لم يبلغوا درجة الولاية، والولاية درجة أعلى من درجة النبوة والرسالة، ويجيب بعضهم بأنهم كانوا يتعاملون مع الناس حسب إمكاناتهم وعقولهم، ولهذا قد يعملون العمل وهم غير مكلفين به أصلاً، وإنما يعملون هذا العمل من أجل توجيه العامة ونصيحتهم، ويقول: إنهم رسل أرسلوا للناس كافة، وأما أهل التحقيق ونحوهم فهؤلاء تسقط عنهم التكاليف.
وقد سبق أن قلنا: إن هذا القول كفر يخرج عن الإسلام، وإن من نواقض الإسلام التي أشار إليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب اعتقاد أن بعض الناس تسقط عنهم التكاليف، وقلنا أيضاً: إن بعض العلمانيين في هذا العصر يشبه هؤلاء، فإنهم قالوا: إن الشريعة لا تصلح لأن تطبق في هذا الزمان الذي تقدم كثيراً واختلف عن زمان الرسالة، وإنه ينبغي علينا أن نشرع قوانين تليق بالحياة، وأما هذه الشريعة فبعضهم قد يتجرأ عليها ويقول: البائدة القديمة.
وبعضهم قد يستحي ويخشى الشناعة وغضبة الناس فيقول: هذه الشريعة تبقى تراثاً، وتبقى شيئاً جميلاً في تاريخنا، لكن العصر الحاضر لا يصلح أن تطبق فيه الشريعة، ولا بد من أن نأتي بتشريعات أخرى.
ثم يأخذون تشريعات الغربيين وزبالة أفكارهم ليطبقوها في الواقع، ثم إذا حصلت لهم معاناة ومشكلات - سواءً كانت سياسية أم اقتصادية أم غير ذلك - قالوا: لماذا أنتم تغضبون من هذه المشكلات؟! انظروا إلى العالم المتحضر، فالعالم المتحضر اليوم فيه مشكلات، وفيه أخطاء! وحينئذ يظنون أن هذا يعذرهم، ويظنون أنهم مازالوا في طريق الخير والسعادة وهم في الحقيقة قد ضلوا ضلالاً بعيداً.