كنا قد وقفنا في تعريف العبادة في الدرس السابق عند تعريف أهل الكلام، وقلنا: إن أهل الكلام حصروا العبادة في مجرد الإقرار وتصديق القلب فقط، وهذا التعريف لمفهوم الإيمان سببه أمران: الأمر الأول: الإرجاء.
والأمر الثاني: تفسيرهم للإله بأنه القادر على الاختراع.
وسبق أن أشرت إلى أن أهل الكلام طوائف متعددة، ومن هذه الطوائف التي بقيت إلى الآن فرقة الأشاعرة وفرقة الماتريدية، ولهما وجود في حياة المسلمين، وهما من الفرق التي تقرر أن الإيمان هو مجرد التصديق، كما أشرت إليه في التعريف بكتاب الإيمان، وترتب على هذا أن العبادة عندهم هي مجرد التصديق القلبي فقط، والتصديق القلبي هو مجرد التصديق بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت؛ لأنهم يفسرون (الإله) في شهادة التوحيد بمعنى: القادر على الخلق والقادر على الاختراع والإنشاء والإبداع، فمعنى (لا إله إلا الله) عندهم: لا خالق إلا الله، ولا شك في أن هذا ليس هو المقصود من (لا إله إلا الله) فإن المشركين الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى عنهم: {كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]، مع أنهم في ذات الوقت كانوا يثبتون أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، وهذا يدل على أنهم لم يفهموا من (لا إله إلا الله) أنها تقتضي مجرد إثبات الخلق والرزق لله وحده فقط، وإنما فهموا أن المقصود أنه لا بد من أن يدين الإنسان لله عز وجل ويخضع له بكل شيء، فيخضع له بقلبه، ويخضع له بجوارحه ويخضع له بلسانه، وهذه هي حقيقة الإيمان عند السلف، وهي أنه مركب من ثلاثة أشياء: من عمل القلب وتصديقه، ومن عمل الجوارح، ومن قول اللسان كذلك.