الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً؛ إنك أنت العليم الحكيم.
أيها الإخوة الكرام! قد وعدنا أن نبدأ هذه الدروس بالتعريف بكتاب من كتب السلف الصالح رضوان الله عليهم، ثم بعد ذلك نبدأ في درس من كتاب العبودية.
والكتاب الذي سنبدأ به هو كتاب (الرد على الجهمية والزنادقة) للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، والإمام أحمد غني عن التعريف، فهو إمام من أعظم أئمة أهل السنة والجماعة، وله مواقفه المشهورة تجاه أهل البدع الذين حاولوا تغيير منهج النظر والاستدلال ومنهج الاعتقاد في حياة الأمة.
والمعتزلة لم يكن لهم رصيد في واقع المسلمين، وإنما هم شواذ ناظروا أهل الأديان الأخرى مثل الهندوسية والسمنية وغيرهم من الأديان الأخرى بمنهج منحرف، فولد هذا عندهم بدعاً وضلالات كان من ثمارها الخبيثة ظهور الاعتزال، والذي جعل منهج المعتزلة خطيراً هو تبني المأمون له، وقد كان في تلك الفترة هو أمير المؤمنين، فلما تبنى الاعتزال كان في بداية أمره لا يستطيع أن يصرح به مع أنه حاكم المسلمين، وذلك لمكانة يزيد بن هارون -وهو عالم من العلماء- في تلك الفترة، ويذكر الذهبي رحمه الله في السير: أن رجلاً من جلساء المأمون قال له: لماذا لا تصرح بخلق القرآن؟ فقال: كيف أصرح وفي الناس مثل يزيد بن هارون؟! قال: ومن يزيد بن هارون هذا؟ قال: هذا عالم من العلماء أخشى أن أصرح بالقول بخلق القرآن فيعارضني فتكون فتنة، فقال له: ما لك ولـ يزيد، يعني: اتركه، لكنه قال له: سأذهب إلى يزيد وأقول له: إن أمير المؤمنين سيصرح بالقول بخلق القرآن، فقال له: اذهب، فجاء هذا الجليس من جلساء المأمون إلى يزيد بن هارون في المسجد أمام الناس وقال له: إن أمير المؤمنين يريد أن يعلن القول بخلق القرآن، فقال له يزيد بن هارون بصوت عال يسمعه أهل المسجد: كذبت؛ أمير المؤمنين لا يقول بخلق القرآن، فإنه إن قال به صارت فتنة، فرجع هذا الرجل إلى المأمون فقال له: حصل كيت وكيت، فقال: ألم أقل لك: إنني لا أستطيع أن أقول بذلك؟! فـ يزيد بن هارون بقوله ذلك أعطى للمسلمين الذين كانوا في المسجد وغيرهم ممن يتناقل الخبر مناعة من تلقف القول بخلق القرآن، مع ما هو منتشر عند الناس من أن القول بخلق القرآن كفر والعياذ بالله؛ لأن القرآن هو كلام الله عز وجل، وكلام الله عز وجل صفة من صفاته، فإذا قيل: إن القرآن مخلوق فمعنى هذا أن بعض صفات الله مخلوقة، وهذا خطر عظيم على العقيدة.
ثم بعد ذلك لما مات يزيد بن هارون امتحن المأمون الناس بالقول بخلق القرآن، وكان ذلك في سنة 218هـ، وسجن كثير من أئمة السنة الذين رفضوا أن يقولوا بأن القرآن مخلوق، وكان ممن أوذي الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، لكن كثيراً من أهل السنة في تلك الفترة اتقوا السيف وتأولوا، ومنهم أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر، سجن في الشام، ثم طلبه المأمون، فلما جيء به وضع على النطع وكاد أن يقتل، فأجاب بالقول بخلق القرآن، ثم بعد أن خرج أنكر القول بخلق القرآن وقال: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، فرد مرة أخرى، فرأى المأمون أن التعامل معه صعب، فرده وسجنه، فمات في السجن رحمه الله تعالى، وأكثر الذين أجابوا في تلك الفتنة اعتذروا بالتقية؛ لأنهم تعرضوا لخطر كبير، وهو احتمال القتل.
وأما الإمام أحمد بن حنبل فإنه دعا الله عز وجل ألا يريه المأمون، وعندما أخذ الإمام أحمد وأريد أن يذهب به إلى المأمون -وكان في طرسوس- مات المأمون قبل أن يأتيه الإمام، لكنه في مرض موته أوصى أخاه المعتصم وشدد عليه في الوصية بأن يمتحن الناس بالقول بخلق القرآن ويجعله مذهباً رسمياً للدولة، وكان المأمون رجلاً مثقفاً، ولكنه اتبع البدعة، أما المعتصم فهو على عكسه، فإنه كان رجلاً شجاعاً قوياً، لكنه لم يكن من أهل النظر، ولا كان من أهل البصيرة ولا كان من أهل الفهم والاستنباط، وإنما أخذ هذه الوصية عن أخيه فامتحن الناس، وحين جيء بالإمام أحمد إليه في مجلسه ضرب عنده وجلد حتى كان يسقط فيرحمه ثم يقول: لولا أنها وصية أخي لتركتك، فليس هو صاحب علم ولا صاحب فهم، لكنها وصية أخذها وامتحن الناس بها، ثم كانت النتيجة بعد ذلك للمتقين، فلما خرج الإمام أحمد رحمه الله من السجن صنف هذا الكتاب العظ