ومن المسائل التي لها تعلق بالشيعة: أن عند الشيعة من جهة أصولهم خلافاً كثيراً.
مثلاً: مسألة تحريف القرآن، بعض طلبة العلم في هذا العصر يقول: الشيعة كفار.
تقول له: لم؟
يقول: لأنهم يقولون بتحريف القرآن ..
وهذا ليس بصحيح؛ فإن الذي ذهب إلى القول بتحريف القرآن طائفة من الشيعة ليست بالكثيرة، وجمهور الشيعة ينكرون هذا القول.
وهناك فائدة لا بد أن تعلم عند قراءة كتب الطوائف، وهي أنه من طرق أئمة الطوائف سواء من الشيعة، أو المعتزلة، أو الأشاعرة أن الواحد من أئمتهم إذا انتصر لقول في مذهبهم حكاه إجماعاً عن طائفته، فيأتي من يأتي من القراء من أهل السنة، فيقول: إن هذا القول إجماع عند هذه الطائفة، وممن نص على الإجماع عندهم فلان من أئمتهم، فيحكم على الطائفة كلها بناءً على هذا.
مثلاً: أبو المعالي الجويني في كتبه يحكي إجماعات، لا يقول: إجماع الأشاعرة، بل يقول: هذا إجماع المسلمين.
مع أن الحقيقة في هذه المسألة التي حكى عليها الإجماع أن أهل السنة بإجماعهم، والمعتزلة بإجماعهم، والأشعري وكبار أصحابه المتقدمين بإجماعهم، يعارضون كلام أبي المعالي الجويني فيها.
قد يقول قائل: هل يكذب أبو المعالي كذباً محضاً؟
نقول: لا.
بل نرجع إلى القاعدة التي قررت في أول هذا الشرح، وهي أنه قد يفهم أن المعنى الذي وصل إليه مبني على أصول إسلامية مسلَّمة عند جميع المسلمين، فإذا ما فرض أن معناه المعين مبني على أصل مجمع عليه بين المسلمين ذهب ليقول عن معناه: إن هذا إجماع المسلمين.
وهذا من مثالات التحصيل بالفهم الذي عابه شيخ الإسلام رحمه الله.
والنتيجة من هذا: أنه عند قراءة نقل من أحد أئمة طائفة من الطوائف كالشيعة والمعتزلة يقول فيه: وأجمع أصحابنا، وذهب أصحابنا إلى كذا.
ليس المقصود أن نقول: لابد أن يكون عندهم مخالف، فقد يكون فعلاً إجماعاً محققاً عندهم، لكن المقصود ذكره هنا: أن حكاية الإجماع من واحد لا يلزم منه أن يكون في المسألة إجماع، وهذا قد يقع حتى من علماء السنة المتأخرين، فإن بعضهم قد يحكي إجماعاً على مسألة ويكون والإجماع على خلافها، أو تكون المسألة مسألةً خلافية.
فصحيح أن بعض علماء الشيعة يقول: أجمع أصحابنا على القول بسقط في القرآن وتحريف فيه ..
لكن هذا ليس إجماعاً صحيحاً؛ لأن كتب القوم الأخرى نص فيها كبار أئمتهم على البراءة من ذلك.
إذاً: مسألة الحكم على الطوائف لابد أن تعتبر بطرق معتدلة، مبنية على الحقائق الشرعية.
وإنك لتعجب من أحد الباحثين -وهو باحث كبير- حيث يقول: إذا اختلفت الشيعة في مسألة كمسألة تحريف القرآن، وكان منهم من يقول بالتحريف ومنهم من يقول بعدم التحريف، قال: فإن القول الذي ينسب إليهم كطائفة هو القول بالتحريف؛ لأن من أئمتهم من يقول: إذا اختلف أصحابنا فالحق من أقوالهم ما خالف الجمهور.
ويقصدون بالجمهور: أهل السنة.
وهذا أيضاً مبدأ لبعض أئمتهم، لكنه ليس بالضرورة أن يكون مبدأًً مطرداً.
إذاً: هذه الطوائف في تقرير مذاهبها تعقيد وإشكال كثير؛ ولكن من التزم القول بتحريف كتاب الله، وأن هذا القرآن ليس كتاباً محكماً، بل دخله تحريف من جنس ما دخل التوراة والإنجيل، فلا شك أن قائل ذلك يكفر مباشرة، ولا يحتاج إلى مجادلة؛ لأنه كفر بما هو معلوم من الدين بالضرورة، وإذا شُك في القرآن لم يبق في الدين شيء؛ لأن الإسلام إنما عرف من القرآن، حتى رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إنما عرفت من القرآن والوحي، ومن البعثة والرسالة.
إذاً: من قال هذا لا شك أنه يكفر، لكن هل جميع هذه الطائفة تقول بذلك؟
مسألة الإطلاقات هذه مسألة لابد من ضبطها؛ لأنه قد تكون الطائفة تشترك في معنى ولكنه معنى متفاضل، بعضه أشد غلواً من بعض، ومثال ذلك: التجهم، بعضه أشد من بعض، فعلى قاعدة السلف السابق توضيحها: كلام جهم بن صفوان تجهم، وكلام المعتزلة تجهم، وكلام ابن سينا تجهم، وكلام ابن رشد تجهم، وكلام الأشعري تجهم لكن هل الدرجة واحدة؟
الجواب: كلا، فإذا ما رأيت كلمة لإمام من أئمة السلف في تكفير الجهمية؛ فلا يعني أن كل من في كلامه مادة جهمية يكون عنده كافراً.
ومن المعلوم أن الإمام أحمد تواتر عنه تكفير الجهمية، والقول بأن من قال: القرآن مخلوق فقد كفر، ومع ذلك لم يذهب إلى تكفير المعتصم الخليفة العباسي الذي كان يقول بخلق القرآن، يقول ابن تيمية رحمه الله في هذا: "ومع ذلك فالإمام أحمد وإن تواتر عنه تكفير الجهمية، إلا أنه لم يكن مشتغلاً بتكفير أعيانهم، فضلاً عن من دخل عليه شيء من مقالاتهم؛ فإن المعتصم العباسي كان يقول بخلق القرآن، وانتصر له بالسيف، ومنع القول بغيره، ومع هذا كله فإن الإمام أحمد كان يذهب إلى إسلامه وديانته، ودعا له، واستغفر له، وصلى خلفه".
وبعض المعلقين من المتأخرين ممن يريد أن يغالط المسألة، يقول: إنما صلى الإمام أحمد خلف المعتصم لأنه خليفة، والسلف كانوا يتورعون من ترك الصلاة خلف الخلفاء!
نقول: هل يعقل أن يكون الإمام أحمد يرى أن الرجل مرتد، وأنه خرج من الملة ثم يصلي خلفه من باب أنه خليفة؟!
هذا مستحيل؛ فإن عن الإمام أحمد روايةً أن الصلاة خلف الفاسق لا تصح، فما بالك بالكافر؟!
إذاً: من المقطوع به أنه صلى خلف الرجل، ودعا له واستغفر له، لأنه يرى أن الرجل مسلم.
وهناك من يعلق الأمر على مسألة قيام الحجة، فنقول: ألم يسمع المعتصم المناظرة غير مرة، فقد كانت بين يديه؟! لقد سمع المناظرة بين الإمام أحمد وبين ابن أبي دؤاد وغير ابن أبي دؤاد، وسمع -أيضاً- انقطاع ابن أبي دؤاد وغيره بين يدي الإمام أحمد وسقوط حجتهم، ومع ذلك لم يعتبر الإمام أحمد أن المعتصم قامت عليه الحجة.
ولا يعني هذا أن الإمام أحمد قال مقولته تلك: القول بخلق القرآن كفر.
من باب التهديد والتخويف، بل كان يقصد هذه الكلمة، ولا شك أن القول بأن هذا القرآن مخلوق هو قول من جنس كلمة المشركين ومرادات المشركين الذين قالوا: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ولكن الكلمة قد تكون كفراً في نفس الأمر وقائلها ليس بكافر.
وإذا قيل: ليس بكافر؛ فإنه لا يلزم أن يكون ليس بكافر ظاهراً وباطناً -وهذه مسألة مهمة- فقد يكون ليس بكافر ظاهراً، وهو في حكم الله كافر منافق.
إذاً: هذه المسائل تفقه على هذا الوجه، ويأتي إن شاء الله مزيد من التفصيل.
مثلاً: مسألة عصمة الأئمة عند الشيعة: عامة الشيعة الإمامية تقول بعصمة الأئمة.
لكن البعض أحياناً يغلو في مقدار هذه الكلمة إلى درجة لا تقع إلا من كافر، كمن يقول بأن الأئمة معصومون، وأن أمر الكون وتدبيره بيدهم، وما الأنبياء والمرسلون إلا فيض من علومهم
إلى غير ذلك من التقارير، فهذا لا شك أنه تقرير كفري؛ لأنه منازعة لله سبحانه وتعالى في ربوبيته وملكوته.
أما من يقول: إنهم لا يتواردون على الخطأ، وأن الله فضلهم
إلخ، وإن كانت هذه الكلمة قد تتضمن كفراً في نفس الأمر، ولكنه معنىً يقع فيه قدر من التأويل والاشتباه.