القسم الثالث: وهو القتال الذي حصل بين الصحابة، وأخصه قتال الجمل وصفين، وأخص النوعين أو الاثنين قتال صفين، وهو ما حصل بين جيش علي بن أبي طالب وبين جيش معاوية.
وكون هذا القتال من القتال المشروع أو ليس من القتال المشروع، هذه مسألة نزاع بين علماء السنة والجماعة، يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "إن جمهور أهل السنة لم يذهبوا إلى هذا القتال، ولا يرونه قتالاً مشروعاً لا من علي ولا من معاوية، قال: بل كانوا يرون أن السنة ترك القتال، قال: وهذا هو الصحيح في مذهب الإمام أحمد كما نص عليه".
والقول الثاني عند طائفة من أهل السنة المعتبرين: أن القتال كان مشروعاً، وأن الصواب كان مع علي بن أبي طالب، ولم يقل أحد من المعتبرين من أئمة السنة: إن الصواب كان مع معاوية.
فالقول بأن القتال ليس مشروعاً، قد حكاه الإمام ابن تيمية عن الجمهور من أهل السنة، وقال: "لأن هؤلاء -يعني: جيش معاوية - أشد ما يقال فيهم أنهم بغاة، قال: وليس في الكتاب ولا في السنة أمر بقتال الطائفة الباغية ابتداءً، فإن الله تعالى قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] ولم يقل: فاقتلوا أحدهما أو ما إلى ذلك، وإنما قال: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] قال: فليس في القرآن تشريع لقتال الطائفة الباغية ابتداءً، وإنما يشرع قتالها إذا نكثت بعد الصلح .. " فدليل شيخ الإسلام أنه انعدم الدليل على التشريع، والأصل حرمة الدماء وحرمة القتال بين المسلمين ..
فهذا استدلال.
والاستدلال الثاني عنده -وهما أخص دليلين لـ شيخ الإسلام في استدلاله لقول الجمهور، وهو ممن ينتصر له بقوة- هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الحسن بن علي: (إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) وكان هذا الصلح بين الحسن ومعاوية، يقول ابن تيمية في وجه الاستدلال: "إن الله امتن على المؤمنين برفع هذا القتال بـ الحسن بن علي، ولو كان هذا القتال مشروعاً لما كان من منة الله الرفع له بـ الحسن بن علي؛ فإن المنة برفع شيء إنما تكون برفع شيء مكروه عنده سبحانه وتعالى .. ".
وهذان الدليلان دليلان قويان، لكن ينبغي أن يقال: إنهما ليسا بدليلين لازمين، فالمأخذ في الدليل الأول: أن قتال الطائفة الباغية لا يشرع إلا بعد نكث الصلح، بمعنى: أن ثمة واجباً أولاً وهو الصلح، فإن بغت بعد الصلح شرع قتالها.
هنا سؤال: فإذا تعذر الصلح مع الطائفة الباغية وأبت الصلح ماذا يعمل معها؟
إذاً الآية هل تكلمت عن هذا المعنى: إذا تعذر صلح الطائفة؟ هذا لم يذكر في الآية.
ولهذا من يقول: إن علياً أصاب في قتاله يقول: إن الطائفة الثانية التي سماها الرسول نفسه: والفئة الباغية، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (تقتل عماراً الفئة الباغية) كما في الصحيح، يقولون: هذه الطائفة أبت الصلح مع علي، فـ علي عجز عن الصلح، والصلح واجب، والواجب يسقط بالعجز عنه، وإذا جاز قتالها بعد نكث الصلح فإن عدم تسليمها بالصلح من جنس تركه، ولهذا إذا عرض عليها الصلح وأُلزمت به فأبت الصلح فإن هذا الواجب يكون ساقطاً ..
وهذا كما أسلفت تنبيه لا أقصد به ذكر الترجيح على خلاف قول شيخ الإسلام، إنما هو نوع من التنبيه إلى أن الاستدلال الذي ذكره رحمه الله ليس بالضرورة أنه استدلال ملزم ..
ومن هنا اختلف السلف في هذه المسألة.
أيضاً: استدلاله بحديث الحسن في البخاري: (إن ابني هذا سيد) نقول: نعم، ولكن متى رفع القتال؟ هل رفع بعد مقتل علي أو أثناء وجود علي؟ من المعلوم أنه رفع بعد مقتل علي، وشأن الحسن ليس كشأن علي.
أي: إذا قيل: إن القتال كان مشروعاً من علي بن أبي طالب فهل مقام علي كمقام الحسن؟ لا، فإنه لا أحد يقول: إن منزلة من خلف علي بن أبي طالب - الحسن ابنه أو غيره - تكون بمنزلته في تشريع القتال، فإن علياً له مقام لا يصل إليه الحسن، فضلاً عن غيره من قادة علي.
إذاً: هذا إنما كان بعد قتل علي؛ فلا حجة فيه من جهة اللزوم، وإن كانت الحجة في المقامين حجة محتملة.
الشاهد من ذلك: أن هذا هو محل الخلاف بين أهل السنة، وكلا القولين فيه قوة.