[لهم مقالات قالوها باجتهاد، وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة؛ بخلاف من والى موافقه وعادى مخالفه].
أي: من نصب بدعةً من البدع واختص بها وتميز بها، وخالف بها جماعة السلف وجماعة أهل السنة والجماعة، فهذا الذي ينتصب هذا الانتصاب، ويوالي ويعادي على طائفته، ويخرج غيره عن دائرة أهل السنة والجماعة فهذا هو صاحب البدعة؛ أما من قال قولاً باجتهاد ولو كان خطأ، ولم يوال ويعاد عليه، وهو في جمهور حاله على السنة فهذا من أهل السنة، بخلاف من والى موافقه وعادى من خالفه فهذا هو طريقة أهل البدع، فإن من أخص الأصول: الاجتماع على السنة والجماعة.
[وكفر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحل قتال مخالفه دون موافقه ..
فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات].
أي: من يلتزم التحيز.
وهذه القاعدة تطرد، وهي: أن كل من التزم التحيز بقول من الأقوال، مع معاداة من خالفه فيه، فإنه ينظر في هذا القول، وهو أحد أنواع ثلاثة:
النوع الأول: إما أن يكون من صريح السنن وبينات الهدي وإجماعات السلف القطعية كإجماعهم على الصفات، وعلى أن القرآن ليس مخلوقاً، وعلى أن الإيمان قول وعمل، فالتحيز لمثل هذه الأقوال والانتصاب لها طريق صحيح.
النوع الثاني: أن تكون مقالة هذا المعين الذي انتصب لها وتحيز بها مقالةً بدعية، يعلم خطؤها ومخالفتها لقول السلف، فهذا لا شك أنه يكون ببدعته وتحيزه وامتناعه بها صاحب بدعة.
وقد يقول قائل: لماذا جمعت بين كون مقالته بدعة وانتصابه لها؟ أي: لم لم يكن بواحد منهما؟
قيل: هذا من فقه الشريعة! ألست ترى أن الصحابة لم يكن من ظاهر مذهبهم التكفير لتارك الزكاة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) والأئمة كـ مالك وأمثاله ما كانوا يكفرون تارك الزكاة، وهو الذي عليه الجمهور من السلف.
لكن لما امتنع من امتنع ممن ترك الزكاة، ونصبوا امتناعهم، وعادوا به، وقاتلوا عليه كفروا.
فإن قيل: بم كفروا؟ هل بالامتناع أم بالترك؟
قيل: بهما، فهم إنما كفروا باجتماع الموجب الذي اقتضى التكفير.
النوع الثالث، وهو لابد من ضبطه وتفطن طالب العلم له: وهو من يقول قولاً هو اجتهاد -أي: ليس على قوله إجماع للسلف، وليس هو على خلافه وضده، بل هو اجتهاد- واستطاع أن يستدل لهذا الاجتهاد بظاهر من الأدلة الشرعية، فإن الانتصاب لقول من أقوال أهل الاجتهاد في المسائل العلمية أو المسائل العملية، تحيزاً وموالاةً ومعاداةً يعتبر من طرق أهل البدع.
وهذا يقع أحياناً من كثير من التجمعات العلمية أو الحركية: حيث أنهم قد ينتصبون لقول من أقوال أهل الاجتهاد، أو هو قول اجتهادي، يوالون ويعادون عليه، وهذا لا شك أنه خطأ.
وإذا قيل: متى يعرف أن هذا القول من مقامات أهل الاجتهاد؟
قيل: إذا لم ينضبط فيه إجماع، فهو مما يسوغ فيه الاجتهاد في الجملة، وإن كان قد يقال: إن بعض المجتهدين قد أخطئوا ..
فهذا مقام آخر.
إذاً المتحصل من هذا: أن الانتصاب والتحيز هو في كثير من الموارد أشد ضلالاً وخروجاً عن مذهب السلف من بعض الحروف القولية أو الفعلية؛ ولهذا من يعظم شأن الحروف ولا يعظم التحيز الذي يصاحب قدراً من الافتراق عن دائرة أهل السنة الشاملة العامة نقول له: هذا التحيز هو أيضاً من البدع؛ لأنه لا موجب له؛ فالذي ينتسب إلى أصول أهل السنة المحققة المجمع عليها لا يحتاج إلى تحيز خاص يختص به هو وجماعته؛ لأن غيره يشاركه في الإجماعات المنضبطة.
وهذا التحيز لا يقع إلا عند من يختص بمقام من الاجتهاد المختص به، وهذا الاجتهاد لا بأس به، لكن التحيز الذي يصاحبه موالاة ومعاداة وتصنيف للآخر
وما إلى ذلك من الملاحقة ..
هذا ليس من طرق أهل السنة، بل هو من طرق أهل البدع، وهو مخالف لقول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] فإن الحبل الذي أمر بالاعتصام به هو المحكم من الشريعة، وهو الأصول المجمع عليها علميةً أو عملية.