هذا الحديث هو حديث الافتراق، وهو ليس من الأحاديث الصحاح البينة الصحة مما خرِّج في الصحيحين، أو مما ظهرت واستفاضت صحته عند الأئمة، وإن كان قد روى هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده وأهل السنن وغيرهم، وصححه جماعة من الحفاظ، واعتبره جماعة من أصحاب السنة فيما صنفوه في مسائل الافتراق ومسائل أهل البدع، وبيان مخالفتهم للسلف.
فإن هذا الحديث ثمة خلافٌ بين الحفاظ في ثبوته، فمنهم من يذهب إلى تضعيفه بأوجهه، ومنهم من يذهب إلى تقويته، وهذا هو المشهور والأظهر عند المتأخرين من الحفاظ.
وهنا مسألة لابد أن تعتبر في مثل هذا النوع من البحوث، وهو أنه ليس مهماً -فيما يظهر- أن يتوصل إلى جزمٍ بصحة هذا الحديث أو عدم صحته، فإن الوصول إلى هذا الجزم ليس له نتيجة محققة في تقرير المسائل المقصودة في هذا الباب، فإن هذا الحديث قد جاء من رواية أبي هريرة وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر -أي: من رواية جماعة من الصحابة- عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أسلفت قد اختلف الحفاظ في ثبوته وعدمه، فذهب ابن حزم إلى الطعن فيه، وهذا قول جماعة، وذهب شيخ الإسلام وجماعة إلى تقويته.
لكن هذا الحديث لا يقال فيه: إن صحته تدل على جملة من المسائل المعتبرة في منهج التقرير لعقيدة السلف أو منهجهم أو أحكام المخالفين، فإن ما تضمنه من المعاني المعتبرة هي ثابتةٌ في الشرع بأدلةٍ أخرى، ولهذا ما يذهب إليه بعض المعاصرين من أن تفريق الأمة بهذا الحديث، أو إن ثبوت اختلاف الأمة مبني على صحة الحديث، وإن الحديث ليس بصحيح، هذا ليس فيه نتيجة محققة، لوجهين:
الوجه الأول: أن افتراق أهل القبلة -أي: اختلاف المسلمين في مسائل أصول الدين- أمر بيّن من جهة الوقوع، فإنه بيِّن وقوعاً من قرون ماضية، بل من آخر عهد الخلفاء الأربعة الراشدين، لما ظهرت الخوارج، والشيعة، ثم بعد ذلك القدرية ... إلخ.
إذاً الافتراق في أهل القبلة افتراق واقع، لا مجال لرفعه أو التكلف بأنه ليس له وجود، حتى لو لم يحدث به الرسول صلى الله عليه وسلم، فما دام أنه وقع فيجب أن يعلم أنه وقع؛ لأن العلم بالواقع علمٌ ضروري يمتنع رفعه.
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد انضبط إليه من جهة الرواية ثبوت الافتراق في هذه الأمة، فإنه تواتر عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيحين وغيرهما أنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله) وفي وجه في الصحيح: (حتى تقوم الساعة) فهذا الحديث حديث ثابت متواتر من جهة استفاضة ثبوته عند الأئمة، ومخرج -كما تقدم- في الصحيحين من غير وجه وفي غيرهما.
وهذا الحديث فيه تقرير لكون الأمة سيدخلها افتراق واختلاف في مسائل أصول الدين، ولهذا وصف عليه الصلاة والسلام هذه الطائفة بأنها الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، وأنهم على أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وعليه: فتقرير افتراق الأمة ثابت بهذا الحديث المتواتر الصحة.
إذاً: قوله في مبدأ هذا الحديث: (وستفترق هذه الأمة).
يقال فيه: إن العلم بهذا الافتراق ليس معلوماً من هذا الحرف من الحديث فقط، بل هو علم ضروري من جهة الوقوع، ومن جهة الخبر النبوي الآخر أيضاً.