ثانياً: أن أصحاب الأئمة المتأخرين الذين انتصروا للسنة والجماعة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: من هو على طريقة أهل الحديث -أي: على طريقة الأئمة المحضة- كـ شيخ الإسلام ابن تيمية، فهذا الرجل إذا قيل: من أحق من يعتبر فقهه لمذهب السلف بعد الأئمة؟ فلا جدل أن هذا الإمام هو أخص هؤلاء.
وثمة قوم تأثروا ببعض البدع الكلامية، وانحرفوا عن ظواهر السنن وعن التمسك بالأثر، وهؤلاء القوم ممن تأثر بطرق الكلابية أو غيرها في الغالب أن طالب العلم من أصحاب السنة لا يتأثر بهم؛ لأن تأثرهم بعلم الكلام بين، وقد أسقط رتبة التمسك بآرائهم وكلماتهم.
ولكن الذين يدخل على بعض أصحاب السنة أو بعض طلبة العلم من المعاصرين شيء من أثرهم، وأثرهم ليس محققاً على السنة والجماعة، هم القسم الثالث، وهم الذين لم يحققوا طريقة أهل الحديث المحضة من الأئمة، ولم يتأثروا بشيء من طرق المتكلمين، ولكنهم زادوا في الرد على المخالف.
وهذه حقيقة لابد أن تعرف: أن من أصحاب الأئمة من الفقهاء من بالغ في الرد على المخالف، فأطلق التكفير لكثير من الطوائف.
وسبق أن ذكرت لذلك مثلاً وهو شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي، فهو إمام فاضل من العباد النساك الفقهاء في مذهب الإمام أحمد، وهو من المنتصرين للسنة والجماعة، وقوله في الصفات محقق، وهو من أظهر من رد على الجهمية وحقق إثبات الأسماء والصفات، لكنه متصوف، بل شديد الغلط في التصوف، كذلك عنده بدع في مسألة القدر وغيرها، وعنده فيما يختص بمقامنا هذا: أنه يبالغ في التعنيف على المخالف، ويكفر الأعيان، ويكفر الأشاعرة بالجملة، والشيعة أحياناً بالجملة
إلخ.
وهذه الطرق لم تكن مطردة عند السلف؛ فإن السلف إذا كفروا طائفة فإنما أرادوا من التزم حقائق الأقوال الكفرية البينة الكفر، فعندما كفر السلف الجهمية، إنما أرادوا الجهمية المغلظة الغلاة، الذين عطلوا الرب سبحانه عن جميع أسمائه وصفاته، وأما من دخل عليه مادة من التجهم فهذا لم يكن كافراً عند السلف بالتعيين، وإن كان عدم الحكم بتكفيره لا يستلزم الحكم بإسلامه وإيمانه.
وكذلك يعتبر ابن حزم ممن عنده اندفاع في تكفير الأعيان، فهو يقول مثلاً: وقال أبو هاشم الجبائي الكافر كذا كذا ..
مع أنه يرجع في كتاب الأصول إلى تقرير قاعدة تعد من أوسع القواعد في درء التكفير، وقد أخذها شيخ الإسلام ابن تيمية وانتصر لها بعد تقييدها، وهي: أن من أراد الحق واجتهد في طلبه من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام فأخطأه فإن خطأه مغفور له ..
هذه قاعدة قررها ابن حزم، وجاء شيخ الإسلام وشرحها في بعض كتبه، ولكنه قيدها بقيود على هدي الأئمة رحمهم الله.
فالنتيجة من هذا: أن اعتبار مسائل التكفير يؤخذ من إطباقات السلف واستفاضة أقوالهم، أما إذا تكلم فلان أو فلان ولو عرف بالسنة، فهذا إذا لم يعلم أن قوله موافق لقول الأئمة على التحقيق فإن قوله أحسن ما يقال فيه: أنه اجتهاد ليس بلازم.