الخامس من رءوس الطواغيت: قال: [ومن حكم بغير ما أنزل الله] أي: من الشرع، فكل من حكم بغير ما أنزل الله فهو طاغوت، لكن هل هذا الطاغوت كفر أو ليس بكفر؟ هذه مسألة أخرى، فالإنسان الذي تعرض عليه قضية ويعلم أن حكم الله فيها كذا ويعرض عنه ويحكم بغيره لأجل هواه فهذا حَكَمَ بغير ما أنزل الله، ومثل هذا إذا كان حكم لأجل الهوى فإنه لا يكون كافراً، وبهذا نعلم أنه ليس كل حكم بغير ما أنزل الله كفراً، بل يجب التفصيل كما فصل الله عز وجل في الحكم بما أنزل الله، ففي موضع قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] ، وفي موضع قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] ، وفي موضع قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] ، وهذه مراتب في أحوال من يحكم بغير ما أنزل الله، واعلم أن الحكم بغير ما أنزل الله لا يكون كفراً إلاّ إذا استحله من حكم به، ولو في قضية واحدة، بل ولو لم يحكم في أي قضية من القضايا بغير ما أنزل الله، فإنه يكون كافراً إذا كان يعتقد أنه يحل له أن يحكم بغير الشريعة، فلا يلزم أن يباشر ذلك بالعمل، كما هي الحال فيمن أنكر وجوب الصلاة وهو في الصف الأول في الروضة وراء الإمام، فإنه يكون كافراً إذا أنكر الوجوب؛ لأنه أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله فإنه كافر، وكذلك من اعتقد أن حكم غير الله خير من حكم الله فهو كافر، أما من حكم لأجل الهوى فإنه لا يكون كافراً، ولذلك ينبغي التفصيل في هذه المسألة الكبيرة.
بعد أن فرغ المؤلف رحمه الله من ذكر رءوس الطواغيت الخمسة -أعاذنا الله وإياكم منها ومن الطغيان دقيقه وجليله- ذكر الدليل على ذلك، واعلم أن كل هذه الأنواع الخمسة لها دليل، وقد أشرنا إلى أدلتها في أثناء الكلام إلا النوع الأخير في قوله: [من حكم بغير ما أنزل الله] ، فدليله قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:60] ، فجعل الله عز وجل الإعراض عن حكمه إلى حكم غيره من التحاكم إلى الطاغوت، وهذه الآية قد ورد في سبب نزولها أثر صحيح هو أن منافقاً اختصم مع يهودي، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد؛ لأنه علم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود؛ لأنه كان يعلم أنهم يأخذون الرشوة، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات في فضح المنافقين: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} ، فجعل طلب الحكم من غير الشريعة من التحاكم إلى الطاغوت.
ثم ذكر المؤلف الدليل على ما تقدم فقال: [وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256]] .
فهذه الآية دليل على أن الله افترض على عباده الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، وهل في الآية دليل على الرءوس الخمسة من الطواغيت؟ الجواب: نعم، يؤخذ منها الدلالة على الرءوس الخمسة من الطواغيت، ولذلك فسر جماعة من السلف الطاغوت بهذه المعاني السابقة، وقد جمع ابن الجوزي رحمه الله في كتابه (زاد المسير) الأقوال في تفسير الطاغوت، وأكثرها مما تقدم ذكره في قول المؤلف رحمه الله: [ورءوسهم خمسة] .