ثم بعد أن فرغ المؤلف رحمه الله من ذكر هذه المراتب وأدلتها من الكتاب انتقل إلى بيان الدليل من السنة على هذه المراتب جميعاً التي بينها حديث جبريل، وهو الحديث المشهور الطويل المعروف الذي اتفق أهل العلم على صحته، وتلقته الأمة بالقبول، وقد رواه عمر بن الخطاب وأبو هريرة رضي الله عنهما في الصحيحين، كما رواه غيرهما أيضاً في صحيح مسلم.
يقول رحمه الله: [والدليل من السنة حديث جبريل] .
واعلم أن هذا الحديث اشتمل وتضمن واحتوى على أصول الدين التي يجب اعتقادها، والتي يسميها العلماء الإيمان المجمل، قال رحمه الله: [قال عمر رضي الله عنه: (بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ] .
وفائدة هذه المقدمة بيان غرابة حال هذا السائل، رجل ليس من المدينة وحاله حال المقيم في ثوبه وبدنه، فشعره شديد السواد، وثوبه شديد البياض، لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ أحد، قال: (فَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فخذيه) ، وهذا فائدته العناية الفائقة بما سيطرحه، ولفت الانتباه إلى ذلك.
قال: [قال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟] فدعاه باسمه لا بوصفه، والسبب في هذا أنه جاء عليه السلام على صورة أعرابي يستبين أمر الدين، ولذلك لم يقل يا رسول الله.
إنما دعاه باسمه الذي عرف به.
فقال: (أن تشهد ألا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ البيت إن استطعت إليه سبيلاً، وهذه هي أركان الإسلام، وتقدم الكلام عليها.
(قال: صدقت) ، هذه الأركان الجامع فيها ما تقدم من أنها شرائع الإسلام التي هي من العمل الظاهر.
وذكر رضي الله عنه في سياق الحديث أن جبريل قال: (صدقت) قال: (فعجبنا له يسأله ويصدقه) ، فحال هذا غريب، حيث جاء في الظاهر ليسأل عما لا يعلمه من أمر دينه، ثم يصدق على الجواب.
(قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره) .
وقد تقدم الكلام على هذه الأركان وقلنا: إن الجامع لها أعمال القلب، وهي أعمال الباطن.
قال بعد ذلك: (أخبرني عن الإحسان) ، وهذا سؤال عن أعلى مراتب الدين، فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، وبهذا تكون قد تمت مراتب الدين.
وتقدم أن هذه المراتب قد دل عليها كتاب الله عز وجل، فجاءت في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر:32] هذه مرتبة الإسلام، وهي الإتيان بالعمل الظاهر، {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [فاطر:32] وهي مرتبة الإيمان، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] وهي مرتبة الإحسان التي هي أعلى المراتب، وقد ذكر الله هذه المراتب في غير هذا الموضع، كما في سورة الواقعة، وبالتأمل يجدها الإنسان في كتاب الله عز وجل.
وبعد أن فرغ من هذه الأسئلة قال: (أخبرني عن الساعة؟) قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) ، فهنا سأله عن الساعة، يعني: عن قيام يوم القيامة.
فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) ومما يفهم من هذه العبارة أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، ولا يعلم متى الساعة، وعلى هذا فالذي يستدل بهذا الحديث على أنّ النبي صلى الله عليه وسلم يعلم متى تقوم الساعة أي تحريفٍ جاء به، وأي تشبيهٍ وأي تضليلٍ؟!! فقد زعم بعض المعطلة من غلاة الصوفية أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الساعة؛ لأنه يعلم أن السائل الذي أتاه جبريل، وجبريل يعلم متى الساعة، فلما سأله عن الساعة قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) : يعني: كلانا مشتركان في علم الساعة.
هكذا زعموا، وهل هذا يفهمه صاحب لسان عربي؟! فالمقصود واضح أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد نفي علم الساعة عن نفسه، لكن الشيطان زين لهم سوء أعمالهم، ثم إن الجواب على هذه الشبهة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم من هو السائل، كما جاء في بعض الروايات، (لم يخفَ عليه أمره كما خفي عليه في هذه المرة) ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب وهو لا يعلم من السائل، ولذلك جاء في آخر الحديث لما طال مقام الصحابة عنده قال: (يَا عُمَرُ! أَتَدْرُونَ مَنِ السَّائِلِ؟ قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أمر دينكم) ، ولو كان الأمر واضحاً له من أول الأمر لما انتظر ملياً، أي: طويلاً.
ولباشرهم بالإخبار عنه وبيان من هو من أول وهلة.
فالمهم أن هذه شبهة ساقطة لا نحتاج إلى الإطالة فيها.
قال: (أخبرني عن أماراتها) يعني: عن علاماتها.
قَالَ: (أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي البنيان) ، هذا بيان لبعض أماراتها الصغرى، وذكر في هذا الحديث علامتين: (أن تلد الأمة ربتها) أي: سيدتها، (وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يتطاولون في البنيان) .
قال: (فمضى فلبثت ملياً) يعني: طويلاً.
ثم قال: (يا عمر! أتدري من السائل؟ قلت: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يعلمكم أمر دينكم) وفي رواية: (دينكم) ، ففهم من هذا أن المراتب الثلاث هي مراتب الدين.