ثم انتقل من الإجمال إلى التفصيل في دليل كل ركن من هذه الأركان، فقال رحمه الله: [فدليل الشهادة] ، ومراده الشهادة لله تعالى وحده بالألوهية، وهي قوله: (لا إله إلا الله) ، واستدل عليها بقوله تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] ، ووجه الدلالة على هذه الشهادة لله تعالى أن الله سبحانه وتعالى شهد على انفراده بالإلهية، وشهادة الله سبحانه وتعالى تتضمن الحكم والقضاء والإلزام، ولذلك فسّر جماعة من السلف قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ) بـ (قضى الله) ، وهذا لا غرابة فيه، فإن شهادة الله قضاء وحكم وفصل وإلزام، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] ، فالشهادة قضاء، كما أن الشهادة إعلان وإخبار وإظهار وبيان، وهي لا تكون إلاّ عن علم، فكذلك هي في حق الله تعالى تكون حكماً وقضاءً: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وهذه شهادته سبحانه وتعالى لنفسه بالإلهية، وأنه لا إله غيره، واستشهد على هذا الأمر طائفتين من الخلق هما أشرف الخلق فيما نعلم: الملائكة وهم عالم غيبي خلقوا من نور، وهم من أشرف خلق الله عز وجل، وأولو العلم، والمقصود بأولي العلم النبيون، والصديقون، والشهداء، والصالحون، كل هؤلاء يدخلون في قوله تعالى: (وَأُولُو الْعِلْمِ) ، ووصفهم بالعلم لأن هذه الشهادة لا تكون إلاّ من عالم.
ثم قال سبحانه وتعالى: (قَائِماً بِالْقِسْطِ) هذه من حيث الإعراب حال من الضمير في قوله: (إِلَّا هُوَ) ، فيكون قد شهد الله سبحانه وتعالى لنفسه في هذه الآية بأمرين: شهد لنفسه بالإلهية، وشهد لنفسه بأنه سبحانه وتعالى قائمٌ بالقسط، وقيامه بالقسط أي: بالعدل.
فهو سبحانه وتعالى القائم على كل نفس بما كسبت، القائم بنفسه المقيم لغيره جل وعلا، وهذا الإعراب أحسن من قولنا في قوله: (قَائِماً بِالْقِسْطِ) : إنه حال من لفظ الجلالة (الله) ؛ لأن هذا الإعراب الذي قدمناه أشمل في المعنى، فيكون: شهد الله، وشهدت الملائكة، وشهد أولو العلم لله بأمرين: بالإلهية، وأنه سبحانه وتعالى قائمٌ بالقسط.
ثم كرر إفراده بالإلهية بقوله: (لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) ، والتكرار لتأكيد الشهادة المتقدمة، وليتلفظ بها القارئ انفراداً، فيكون من الشاهدين؛ لأن مقدم الآية خبر عن شهادة غيره: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18] ، وهل قراءة هذه الشهادة تحصل بها الشهادة من القارئ؟ الجواب أنها لا تحصل ولذلك كررت كلمة التوحيد ليتلفظ بها القارئ حتى يدخل في زمرة أولي العلم، فقال: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} سبحانه وتعالى، هو (عزيز) فيمتنع من أن يكون له شريك، و (حكيم) فلا يمكن أن يسوى غيره به سبحانه وتعالى في شيء مما يختص به.
ثم قال رحمه الله: [ومعناها -أي: ومعنى هذه الشهادة- لا معبود بحق إلاّ الله وحده] ، وأتى بـ (معبود) من الشهادة التي يفسرها (لا إله إلا الله) ، ففسّر كلمة (إله) بـ (معبود) ، وهذا تفسير مطابق، فالإله في كلام العرب هو المعبود، والإله: مأخوذ من (مألوه) ، وهو الذي تألهه القلوب محبةً وتعظيماً، وخضوعاً وذلاً، وخوفاً ورجاءً.
والأصل في تعريف الإله في كلام العرب أنه اسم لمن قُصِدَ بشيءٍ من العبادة وهذا أصح ما قيل في معنى كلمة (إله) ، أما في هذا السياق فالمراد به: لا معبود حقٌ إلاّ الله.
فمن أين أتى المؤلف رحمه الله بكلمة (حق) ، هل هي موجودة في الشهادة؟ ليست موجودةً في لفظ الشهادة، ولا أحد يقول: (لا إله حق) لفظاً، ولكنّ هذه الجملة لابد فيها من خبر لـ (لا) ، فإعراب (لا إله إلا الله) هو أن (لا) نافية للجنس، و (إله) اسمها مبني على الفتح، و (إلا) أداة استثناء، و (الله) لفظ الجلالة ليس خبراً لـ (لا) ؛ لأنه لا يصلح أن يكون خبراً لها لفظاً ولا معنى، أما كونه لا يصلح لفظاً فلأن (لا) لا تعمل إلا في النكرات.
كما قال ابن مالك رحمه الله تعالى: عمل إن اجعل لـ (لا) في نكرة مفردة جاءتك أو مكررة فهي تعمل فقط في النكرات، ولفظ الجلالة (الله) معرفة، بل هو أعرف المعارف، فلا يمكن أن تعمل فيه (لا) من حيث اللفظ واللغة.
وأما من حيث المعنى فكذلك؛ لأنا إن جَعْلنَا لفظ الجلالة خبراً اقتضى إقراراً لمعبوداتٍ من دون الله، لأن المعنى يكون: لا معبود إلا الله وهذا ليس بصحيح، فهناك معبودات كثيرة غير الله عز وجل، ولهذا احتاج العلماء إلى تقدير خبر لهذه الجملة، واختلفوا في تقدير الخبر، فمنهم من قال: (لا إله) أي: لا معبود في الوجود ومنهم من قال: (لا إله حق) وهذا التقدير هو الأصوب؛ لأن تقدير (في الوجود) يلزم منه أن يكون كل من قصد بعبادة حقاً، وهذا ليس بصحيح، إنما الذي يراد من هذه العبارة ومن هذه الجملة هو إثبات أن الله هو الإله الحق، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32] ، وهذا التقدير أصوب ما قيل في التقديرات، وقد سبق ذكر الدليل على ذلك، فيكون المعنى: لا معبود بحق إلاّ الله تعالى.
يعني: لا إله يقصد بشيء من العبادة وهو مستحق لها وأهل لتلك العبادة إلا الله، فإنه هو المستحق للعبادة دون غيره: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] .
قال المؤلف رحمه الله: [ (لا اله) نَافِيًا جَمِيعَ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ (إِلا اللهُ) مُثْبِتًا الْعِبَادَةَ للهِ وحده] ، وهذا يفيدنا أن التوحيد لا يحصل ولا يتم إلا بركنين: إثبات ونفي.
فالنفي هو في (لا إله) ، نفي لجميع ما يعبد من دون الله تعالى، والإثبات في (إلا الله) ، إثبات لإلهيته وحده لا شريك له، وتأمل وانظر فيما ذكره الله عز وجل في كتابه من آيات التوحيد، تجد أنها سائرة على هذا النسق، فلابد من ذكر نفي وإثبات؛ لأنه بذلك يحصل كمال التوحيد.
قال المؤلف رحمه الله: [لا شَرِيكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، كَمَا أَنَّهُ لا شريك له في ملكه] .
وهذا كالدليل لما تقدم ذكره من تقدير في قوله: (لا معبود بحق إلا الله) ، فالشيخ رحمه الله يقول: وجه هذا التقدير أنه لا يستحق العبادة إلاّ الله، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي مُلْكِهِ، وهذا استدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية.
قال المؤلف رحمه الله: [وتفسيرها]-الضمير يعود إلى شهادة ألا إله إلا الله- الذي يوضحها -أي: يبينها ويجليها- قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26-27] ، فـ (إِذْ) ظرف لما مضى من الزمان، ولابد له من متعلق، ومتعلقه في مثل هذا السياق (اذكر) ، يعني: اذكر إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه: (إِنَّنِي بَرَاءٌ) و (براء) : مصدر يستوي فيه المفرد والجمع، والمراد من ذلك: إنني بريء.
فهو تبرؤ إبراهيم من عبادة قومه للأصنام، وهو معنى قوله تعالى: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] ، فالبراءة اجتناب لما كان عليه قومه، ولذلك قال: (مِمَّا تَعْبُدُونَ) يعني: من الذي تعبدونه فـ (ما) موصولة بمعنى الذي، فتبرأ مما يعبدون، ثم قال: (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) ، وهذا استثناء، إما أن يكون استثناء متصلاً، أو استثناء منقطعاً على قولين لأهل العلم، فالاستثناء المتصل يلزم منه أن يكون قومه يعبدون الله وغيره، يعبدون الأصنام ويعبدون الله معها، فهذا هو المعنى بناءً على جعل الاستثناء متصلاً، أما المعنى على كون الاستثناء منقطعاً فإن قوم إبراهيم عليه السلام كانوا لا يعبدون إلاّ الأصنام فقط، ولا يعبدون الله مع الأصنام، ويكون تقدير الكلام: إنني براء مما تعبدون، لكن الذي فطرني فهو الذي أعبده وأفرده بالعبادة وحده.
ومعنى (الذي فطرني) أي: الذي خلقني (فإنه سيهدين) ، وهذا فيه التعليل لإفراده بالعبادة، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي يملك الهداية، وأن هذه البراءة من هداية الله له، وأن كل من خالف هذه البراءة لفظاً أو معنىً فإنه بعيد عن هداية الله سبحانه وتعالى، كما قال جل وعلا في نبأ إبراهيم: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28] ، و (جَعَلَهَا) الضمير هنا يعود إلى الكلمة، وهي البراءة من الشرك المتمثل بعبادة قومه للأصنام، والكلمة الباقية في عقبه هي الشهادة، (فِي عَقِبِهِ) يعني: في ذريته وخلَفِهِ في أولاده وأولاد أولاده، وذلك بما تعاهد به إبراهيم أبناءه من الوصية كما ذكر الله عز وجل في سورة البقرة من وصيته لأولاده بأن يلزموا هذا الدين، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي: لعلهم يرجعون إلى هذه الكلمة ويلتزمونها.
ووجه الدلالة من الآية -وفق مراد المؤلف- أن شهادة أن لا إله إلا الله تستلزم البراءة من كل ما يعبد من دون الله، وأنه لا يستقيم التوحيد إلاّ بإفراد الله عز وجل بالعبادة والخلوص من الشرك والبراءة من أهله، وهو معنى قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256] ، فجعل الاستمساك بالعروة الوثقى مرتباً على هذين الأمرين، وانظر إلى حسن تأليف المؤلف رحمه الله وقوة تصنيفه؛ حيث لم يفسر هذه الكلمة أو لم يوضحها ويشرحها بكلام من عنده، وإنما وضحها بكلام الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبهذا يلقم خصومه حجراً؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يعارض كلام الله عز وجل إلا من كان في قلبه زيغ.
ثم قال رحمه الله: [وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ