قال رحمه الله: [وَأَنْوَاعُ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا مِثْلُ الإسلام والإيمان والإحسان] .
هذا بداية تفصيل لما يجب إفراد الله سبحانه وتعالى به من العبادات.
وفهمنا من هذا أن المؤلف رحمه الله لن يستوعب ذكر العبادات، إنما مقصوده التمثيل لأهمها، وبدأ رحمه الله في ذكر العبادات بذكر أصولها، فأصول العبادات الإسلام والإيمان والإحسان، فكل العبادات ترجع إلى هذه الأنواع الثلاثة، فالإسلام ترجع إليه عبادات الجوارح والظاهر، والإيمان ترجع إليه عبادات القلب، والإحسان هو منتهى العبادة القلبية، فهذه الأمثلة الثلاثة هي مراتب الدين، ولذلك لما جاء جبريل وسأل عنها في حديث عمر رضي الله عنه -في الحديث الطويل المشهور- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخره: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم) ، فوصف ما تضمنه الحديث بأنه أمر الدين، فالمهم أن هذه المراتب الثلاث هي مراتب الدين وأصوله.
ثم بعد ذلك فرّع المؤلف رحمه الله أمثلةً فقال: (ومنه الدعاء) ، واعلم أن الدعاء في كتاب الله عز وجل يطلق ويراد به دعاء العبادة، ويطلق ويراد به دعاء المسألة، فحيثما ذكر الله الدعاء فيصلح أن يكون دعاء العبادة، ويصلح أن يكون دعاء المسألة، إلا في مواضع فيراد به دعاء المسألة، كما في قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] ، فهنا المراد بالدعاء دعاء المسألة فالدعاء والدعوة في كتاب الله عز وجل يراد بها دعاء العبادة ودعاء المسألة، وأظن أن التفريق بينهما واضح، فدعاء العبادة هو كل عبادة يتقرب بها الإنسان لله عز وجل، ودعاء المسألة هو ما ينزله العبد بربه من الحوائج.
قال رحمه الله: [وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ وَالتَّوَكُّلُ وَالرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ وَالْخُشُوعُ وَالْخَشْيَةُ والإنابة والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذبح والنذر] .
هذه الأمثلة منها ما هو عبادات قلبية وهو الأكثر والغالب، ومنها ما هو عبادات فعلية، ومنها ما هو عبادات قولية.
فمثل رحمه الله لجميع العبادات: العبادات القلبية، والعبادات الفعلية، والعبادات القولية.
قال رحمه الله: [وَغَيْرُ ذَلَكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ الله بها، كلها لله تعالى] .
المؤلف رحمه الله ذكر أمثلة للعبادة، والضابط الذي ينتظم جميع العبادات هو أن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
وهناك تعريف آخر وهو أسهل وأوضح، وهو أن يقال: العبادة كل ما أمر الله به ورسوله سواءٌ أكان أمرَ وجوبٍ، أم أمر استحباب، فإنه عبادة، ولذلك من الأحسن أن يضاف للتعريف الأول للعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة (الواجبة والمستحبة) ؛ حتى يتضح أن العبادات لا تقتصر على الواجبات، بل حتى المستحبات داخلة في مسمى العبادة.
يقول رحمه الله في الاستدلال لهذه الأمثلة التي ذكرها من العبادات -على وجه التفصيل-: [والدليل على ذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18]] .
هذا دليل لجملة ما تقدم من العبادات، فكل عبادة يصح الاستدلال على عدم جواز صرفها لغير الله تعالى بقوله سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ، وقد تقدم الكلام على هذه الآية، وقلنا: إن المساجد هنا جمع مسجد، وهو اسم مكان العبادة؛ فإن الله سبحانه وتعالى جعل أماكن العبادة مستحقةً له، وهذا يفهم منه أن ما يكون فيها يجب أن يكون له، ولذا أكد ذلك بقوله: {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ، وهذا يشمل النهي عن دعاء المسألة ودعاء العبادة، وقوله: (أَحَداً) نكرة في سياق النهي فتفيد العموم كائناً من كان.