برجوع، وإن كانا في موضع واحد بأن يقول في المسألة قولان فإن أشار إلى تقوية أحدهما فهو قوله، وإن لم يعلم فقيل يتخير السامع بينهما.
وإذا علم الرجوع عن الأول لا يجوز الفتيا به ولا تقليده فيه، ولا بقي يعد من الشريعة، بل هو كالنص المنسوخ من نصوص صاحب الشريعة لم يبق منها.
فإن قلت: لأي شيء جمع الفقهاء الأقوال كلها السابقة واللاحظة في كتب الفقه، بل كان ينبغي، أن لا يضاف لكل إمام إلا قوله الذي لم يرجع عنه.
قلت: ما ذكرتموه أقر للضبط، غير أنهم قصدوا معنى الآخر وهو الاطلاع على المدارك واختلاف الآراء، وأن مثل هذا القول قد صار إليه المجتهد في وقت فيكون ذلك اقرب للترقي لرتبة الاجتهاد، وهو مطلب عظيم أهم من تيسير الضبط فذلك جمعت الأقوال
في المذاهب. وإذا لم يعلم التاريخ ولم يحكم عليه برجوع ينبغي أن لا يعمل بأحدهما، فإنا نجزم بأن أحدهما مرجوع عنه منسوخ، وإذا اختلط الناسخ والمنسوخ حرم العمل بهما، كاختلاط المذكاة بالميتة، وأخت الرضاع بالأجنبية، فإن المنسوخ لا يجوز الفتيا به، فذلك كله من باب اختلاط الجائز والممنوع فيحرم الفتيا حينئذ بتلك الأقوال حتى يتعين المتأخر منها، أو يعلم أنهما محمولة على أحوال مختلفة أو أقسام متباينة، فيحمل كل قول على حالة أو قسم، ولا تكون حينئذ أقولاً في مسألة واحدة، بل كل مسألة فيها قول.
وأما القولان في الموطن الواحد إذا لم يشر إلى تقوية أحدهما توجه التخيير بينهما قياساً على تعارض الأمارتين، فإن نصوص المجتهد بالنسبة إلى المقلد كنسبة نصوص صاحب الشرع للمجتهد، ولذلك يحمل عام المجتهد على خاصة، ومطلقة على مقيده، وناسخه على منسوخه، وصريحه على محتمله، كما يعمل ذلك في نصوص صاحب الشرع، وأما كيف يتصور أن يقول المجتهد في المسألة قولان، مع أنه لا يتصور عنده الرجحان إلا في أحدهما، فقيل معناه أنه أشار إلى أنهما قولان للعلماء أو أنهما احتمالان يمكن أن يقول بكل واحد منهما عام لتقاربهما من الحق، وأما إنه جازم بهما فمحال ضرورة.