تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن الجبال فلا تسمع إلا همساً)

قال الله تعالى: [{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:105 - 108].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ)) أي: هل تبقى يوم القيامة أو تزول؟ ((فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا)) أي: يذهبها عن أماكنها ويمحقها ويسيرها تسييراً ((فَيَذَرُهَا)) أي: الأرض، ((قَاعًا صَفْصَفًا)) أي: بساطاً واحداً، والقاع: هو المستوي من الأرض والصفصف: تأكيد لمعنى ذلك].

والقاع هو الذي يرى فيه سراب، وليس فيه ارتفاع ولا جبال.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقيل: الذي لا نبات فيه، والأول أولى، وإن كان الآخر مراداً أيضاً باللازم].

إن الأرض يوم القيامة يزال ما عليها من الجبال والارتفاعات فتكون مستوية، ((قَاعًا صَفْصَفًا)) * ((لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا)) فليس فيها جبال ولا نبات، وتمد الأرض كما يمد الأديم، وتبسط وتستوي، فيكون هناك الحساب على راحة الأرض بعد استوائها، {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48]، وهذا تبديل صفات لا تبديل ذات، فإنها تمد كما يمد الأديم، فيزال ما عليها من الجبال، فتكون قاعاً صفصفاً، فيكون الحساب عليها، كما أن جلود الكفار تبدل كما قال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء:56]، وهذا تبديل صفات لا تبديل ذوات، خلافاً لأهل البدع كالجهمية وغيرهم الذين يقولون: إن الجلود تبدل بجلود أخر، فينسبوا الظلم إلى الله، تعالى الله عما يقولون، فمعنى الآية: إذا نضجت جلودهم بدلت وجددت؛ ليذوقوا العذاب.

كما أن الإنسان يبعث يوم القيامة بذاته، ويبدأ خلقه من عجب الذنب، خلافاً للجهم بن صفوان قبحه الله، الذي يقول: إن الإنسان يبلى ويبعث إنساناً آخر، يعني: يبعث شخصاً آخر غير الذي مات، وهذا من أبطل الباطل، فلما قال الجهم كذلك فتح باباً لـ ابن سينا بأن أنكر المعاد وأنكر البعث، وقال: ما دام أن الذي يبعث شخص آخر فلا يوجد بعث للأجساد وإنما البعث يكون للأرواح، قال هذا في رسالة له أنكر فيها البعث، وهذا كفر، فمن أنكر البعث للأجساد فهو كافر بإجماع المسلمين وبنص القرآن، قال الله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم على البعث وعلى الساعة في ثلاثة مواضع: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3]، وقال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:53] فالفلاسفة الذين ينكرون بعث الأجساد كفار بإجماع المسلمين، مثل: ابن سينا والفارابي وأرسطو وكل هؤلاء ملاحدة؛ لأنهم ينكرون بعث الأجساد.

وأرسطو هو أول من قال بقدم العالم، وكان شيخه سقراط وشيخه أفلاطون كلهم يعظمون الشرائع والإلهيات، ويقولون بحدوث العالم، فلما جاء أرسطو ابتدع القول بقدم العالم، وقال: إن العالم قديم ليس له أول ولا بداية، وهذا إنكار لله، نسأل الله العافية.

ومن قال: إن البعث للروح دون الجسد فهو كافر، والجهم هو الذي فتح لهم الباب؛ لأن الجهم قال: إن الذوات تفنى وتبعث ذوات أخرى.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال: ((لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا)) أي: لا ترى في الأرض يومئذ وادياً ولا رابية، ولا مكاناً منخفضاً ولا مرتفعاً، كذا قال ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة ومجاهد والحسن البصري والضحاك وقتادة وغير واحد من السلف.

((يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ)) أي: يوم يرون هذه الأحوال والأهوال يستجيبون مسارعين إلى الداعي، حيثما أمروا بادروا إليه ولو كان هذا في الدنيا لكان أنفع لهم، ولكن حيث لا ينفعهم لا ينفعهم].

فالمبادرة والاستجابة في الدنيا ينتفع بها صاحبها، لكن الاستجابة يوم القيامة للداعي لا ينفعهم؛ لأن الدنيا هي دار العمل وقد انتهت.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم:38]، وقال: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} [القمر:8].

وقال محمد بن كعب القرظي: يحشر الله الناس يوم القيامة في ظلمة، ويطوي السماء، وتتناثر النجوم، وتذهب الشمس والقمر، وينادي مناد، فيتبع الناس الصوت فيأتونه، فذلك قوله: ((يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ))، وقال قتادة: (لا عوج له) لا يميلون عنه، وقال أبو صالح: (لا عوج له) أي: لا عوج عنه].

يعني: أنهم يتبعون صوت الداعي ولا يميلون ولا ينحرفون عنه، بل يسمعونه ويقصدونه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ)) قال ابن عباس رضي الله عنهما: سكنت، وكذا قال السدي.

((فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)) قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: يعني: وطء الأقدام، وكذا قال عكرمة ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وقتادة وابن زيد وغيرهم.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)) الصوت الخفي، وهو رواية عن عكرمة والضحاك.

وقال سعيد بن جبير: ((فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)) الحديث وسره، ووطء الأقدام، فقد جمع سعيد كلا القولين، وهو محتمل.

أما وطء الأقدام: فالمراد سعي الناس إلى المحشر، وهو مشيهم في سكون وخضوع، وأما الكلام الخفي: فقد يكون في حال دون حال، فقد قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:105]].

ولذلك فإن مشاهد القيامة متعددة، ففيه مشهد لا يتكلم فيه أحد، كما أخبر الله عن الكفار أنهم يحشرون على وجوههم صماً وعمياً وبكماً، وفي مشهد يتكلمون وينطقون وينكرون فيه، قال الله عنهم: {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015