قال المؤلف رحمه الله: [وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي التياح قال: سمعت أبا الجعد يحدث عن أبي أمامة قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قاص يقص فأمسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قص، فلأن أقعد غدوة إلى أن تشرق الشمس أحب إلي من أعتق أربع رقاب).
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا هاشم حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت كردوس بن قيس - وكان قاص العامة بالكوفة].
يعني واعظاً يعظ.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان قاص العامة بالكوفة يقول: أخبرني رجل من أصحاب بدر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لأن أقعد في مثل هذا المجلس أحب إلي من أعتق أربع رقاب)].
يعني في مجلس الوعظ.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال شعبة: فقلت: أي مجلس؟ قال: كان قاصاً.
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا محمد حدثنا يزيد بن أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن أجالس قوماً يذكرون الله من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ولأن أذكر الله من صلاة العصر إلى غروب الشمس أحب إلي من أن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفاً) فحسبنا دياتهم ونحن في مجلس أنس فبلغت ستة وتسعين ألفاً وهاهنا من يقول: أربعة من ولد إسماعيل، والله ما قال إلا (ثمانية، دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفاً).
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر عن الأغر أبي مسلم - وهو الكوفي - (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يقرأ سورة الكهف، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم)].
يعني: هذا كله في تأويل قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28] أي: الذين يدعون الله ويذكرونه فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر نفسه معهم وإذا كان هذا في الذين يدعون الله ويذكرونه فمجالس العلم أولى وأفضل، ومجالس الذكرهي: التي يُذكر الله فيها ويسبح ويُهلل ومجالس العلم هي: التي يُقرأ فيها القرآن، ويقرأ فيها العلم ويدرس، ويتعلم فيها الأحكام والحلال والحرام.
فهذا من أفضل المجالس فينبغي للإنسان أن يصبر نفسه فيها وأن يحرص على مجالس الذكر.
وقد ثبت في صحيح البخاري في كتاب العلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث أصحابه في حلق -والرسول عليه الصلاة والسلام هو أول من جعل حلقاً للعلم- فجاء ثلاثة نفر، فأما أحدهم فوجد فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلف الحلقة، وأما الثالث فأدبر ذاهباً فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم حديثه قال: ألا أنبئكم بخبر الثلاثة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: أما الأول فأوى فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه).
فلا ينبغي للإنسان أن يكون معرضاً عن حلقات العلم، وعن أن يتعلم فيها الحلال والحرام والأحكام، من الواجب والمحرم والمندوب والمكروه والمباح ومن أن يسمع إلى قال الله وقال رسوله، ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم.
فحلق الذكر ومجالسه والحلقات والدروس العلمية تدخل دخولاً أولياً في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28].
وتعلم العلم أفضل من الذكر المجرد، وأفضل من أن يجلس الإنسان يذكر الله وحده أو يقرأ القرآن وحده إلا إذا تدبر وتأمل فيه؛ لأن هذا ذكر خاص، وهذا نفعه متعدٍ؛ لأن تعلم العلم أفضل العبادات ولهذا قال الإمام أحمد: تعلم العلم لا يعدله شيء.
وقال العلماء: إن تعلم العلم أفضل من نوافل العبادة، فهو أفضل من نوافل الصلاة، ومن نوافل الصيام وغيرهما؛ لأن نوافل الصلاة ونوافل الصيام نفعها قاصر على الشخص, وأما تعلم العلم فنفعه متعد للغير.
والذكر الجماعي ليس له أصل، ولا دليل عليه؛ وإنما كان كل أحد يذكر الله وحده.