قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَاً * قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:1 - 5].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قد تقدم في أول التفسير أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتمها، فإنه المحمود على كل حال، وله الحمد في الأولى والآخرة، ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد صلوات الله وسلامه عليه، فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض، إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، حيث جعله كتاباً مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم واضحاً بيناً جلياً نذيراً للكافرين، بشيراً للمؤمنين، ولهذا قال: ((وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَاً)) أي: لم يجعل فيه اعوجاجاً ولا ميلاً بل جعله معتدلاً مستقيماً ولهذا قال: (قَيِّمًا) أي: مستقيماً، ((لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ)) أي: لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به، ينذره بأساً شديداً: عقوبة عاجلة في الدنيا وآجلة في الأخرى، ((مِنْ لَدُنْهُ)) أي: من عند الله الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد، ((وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ)) أي: بهذا القرآن، الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح، ((أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا)) أي: مثوبة عند الله جميلة، {مَاكِثِينَ فِيهِ} في ثوابهم عند الله، وهو الجنة خالدين فيه ((أَبَدًا)) دائماً لا زوال له ولا انقضاء.
وقوله: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} قال ابن إسحاق: وهم مشركو العرب في قولهم: نحن نعبد الملائكة وهم بنات الله، {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} أي: بهذا القول الذي افتروه وائتفكوه، {وَلا لِآبَائِهِمْ} أي: لأسلافهم، ((كَبُرَتْ كَلِمَةً)) نصب على التمييز تقديره: كبرت كلمتهم هذه كلمة، وقيل: على التعجب تقديره: أعظم بكلمتهم كلمة، كما تقول: أكرم بزيد رجلاً، قاله بعض البصريين، وقرأ ذلك بعض قراء مكة: كبرت كلمة، كما يقال: عظم قولك وكبر شأنك، والمعنى على قراءة الجمهور أظهر، فإن هذا تبشيع لمقالتهم واستعظام لإفكهم].
قوله: (كلمة) إما تمييز وإما تعجب, كما تقول: أكرم بزيد على التعجب، أما التمييز فالتقدير: كبرت كلمتهم هذه كلمة، على التنوين المنصوب وهي قراءة حفص، وهي أيضاً قراءة الجمهور، وقرأ بعض قراء مكة: كبرت كلمةٌ بالرفع كما يقال: عظم قولك وكبر شأنك، والمعنى على قراءة الجمهور أظهر، فإن هذا تبشيع لمقالتهم واستعظاماً لإفكهم وافترائهم.
قال: [ولهذا قال: ((كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ)) أي: ليس لها مستند سوى قولهم، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم، ولهذا قال: {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}].
يعني: هذه الآيات الكريمة من أول سورة الكهف افتتحها سبحانه وتعالى بالحمد, فقال: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَاً)) والحمد: هو الثناء على المحمود بصفاته الجميلة، مع حبه وإجلاله وتعظيمه, فإذا خلا الحمد عن الحب صار مدحاً, والفرق بين المدح والثناء أن كلاً منهما فيه ثناء على المحمود.
إذاً: إذا كان الثناء مع حب وإجلال وتعظيم سمي حمداً، وإن خلا من الحب والإجلال والتعظيم سمي مدحاً, والحمد أيضاً يكون على الصفات والأفعال الاختيارية التي يفعلها الإنسان باختياره يقال له: حمد، أما الثناء على الصفات التي لا اختيار للإنسان فيها يسمى مدحاً، ولا يسمى حمداً, كالجمال، فأنت تمدح إنساناً بجمال، فالجمال لا صنع له فيه، فهذا لا يسمى حمداً وإنما يسمى مدحاً, وبخلاف ما إذا أثنيت على إنسان بخلقه وإحسانه للناس فهذا يسمى حمداً؛ لأنه ثناء على أفعاله التي يعملها باختياره مع حبه، ولهذا جاء في حق الرب: الحمد لله؛ لأنه ثناء على أفعاله الاختيارية مع حبه وإجلاله وتعظيمه.