قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [البقرة:114] هذا خبر معناه الطلب، أي: لا تمكنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية؛ ولهذا لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر من العام القادم في سنة تسع أن ينادى برحاب منى: (ألا لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته) وهذا إذا كان تصديقاً وعملاً].
(إذا) زائدة تحذف، فتكون العبارة هكذا: (وهذا كان تصديقاً) لكن إذا حذفت، يستقيم المعنى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا كان تصديقاً وعملاً بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]].
هذه الآية خبر بمعنى الأمر، والمعنى: إذا قدرتم عليهم فلا تمكنوهم من دخولها إلا خائفين، وحتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال بعضهم: ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها، والمعنى: ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وغيرهم.
وقيل: إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم إلا خائفاً يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم، وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان، وأن يجلى اليهود والنصارى منها ولله الحمد والمنة، وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام].
قوله: (وما ذاك إلاتشريف) الصواب أن يقول: وما ذاك إلا لتشريف أكناف المسجد الحرام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة التي بعث الله فيها رسوله إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً صلوات الله وسلامه عليه، وهذا هو الخزي لهم في الدنيا؛ لأن الجزاء من جنس العمل فكما صدوا المؤمنين عن المسجد الحرام صدوا عنه، وكما أجلوهم من مكة أجلوا عنها {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:114] على ما انتهكوا من حرمة البيت، وامتهنوه من نصب الأصنام حوله، ودعاء غير الله عنده والطواف به عرياً، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله، وأما من فسر بيت المقدس فقال كعب الأحبار].
الصواب أن يقول: وأما من فسره ببيت المقدس، وهذا هو القول الأول الذي اختاره ابن جرير وقد فسره بتخريب بيت المقدس كما فعل بختنصر، وهذا القول ضعيف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما من فسر بيت المقدس فقال كعب الأحبار: إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس خربوه فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أنزل عليه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [البقرة:114] الآية فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفاً.
وقال السدي: فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه، أو قد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها، وقال قتادة: لا يدخلون المساجد إلا مسارقة.
قلت: وهذا لا ينفي أن يكون داخلاً في معنى عموم الآية فإن النصارى لما ظلموا بيت المقدس بامتهان الصخرة التي كانت تصلي إليها اليهود عوقبوا شرعاً وقدراً بالذلة فيه إلا في أحيان من الدهر أشحن بهم بيت المقدس.
وكذلك اليهود لما عصوا الله فيه أيضاً أعظم من عصيان النصارى كانت عقوبتهم أعظم، والله أعلم.
وفسر هؤلاء الخزي في الدنيا: بخروج المهدي عند السدي وعكرمة ووائل بن داود، وفسره قتادة بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون، والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله، وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة كما قال الإمام أحمد: أخبرنا الهيثم بن خارجة، أخبرنا محمد بن أيوب بن ميسرة بن حلبس قال: سمعت أبي يحدث عن بسر بن أرطأة].
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: (اللهم! أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة) وهذا حديث حسن، وليس في شيء من الكتب الستة، وليس لصحابيه وهو بشر بن أرطأة حديث سواه، وسوى حديث: (لا تقطع الأيدي في الغزو)].
وبسر قال عنه أبو داود: ثقة، وقال ابن عمار ثقة، وقال محمد بن سعيد والعجلي والبزار وابن حبان بأنه ثقة.