قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ورد في ذلك أثر غريب وسياق عجيب في ذلك أحببنا أن ننبه عليه، قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى: أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا ابن وهب أخبرنا ابن أبي الزناد حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك] أي: بعد وفاته بقليل [تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به.
قالت عائشة رضي الله عنها لـ عروة: يا ابن أختي! فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها، فكانت تبكي حتى إني لأرحمها، وتقول: إني أخاف أن أكون قد هلكت، كان لي زوج فغاب عني، فدخلت علي عجوز فشكوت ذلك إليها، فقالت: إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك، فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر، فلم يكن شي حتى وقفنا ببابل وإذا برجلين معلقين بأرجلهما فقالا: ما جاء بك؟ قلت: نتعلم السحر، فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري فارجعي، فأبيت وقلت: لا، قالا: فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت ففزعت ولم أفعل فرجعت إليهما فقالا: أفعلت؟ فقلت: نعم، فقالا: هل رأيت شيئاً؟ فقلت: لم أر شيئاً، فقالا: لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأرببت وأبيت].
أي: بقيت في المكان وأبيت الرجوع.
قالت: [فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه، فذهبت فاقشعررت وخفت، ثم رجعت إليهما وقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ قلت: لم أر شيئاً، فقالا: كذبت، لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري، فإنك على رأس أمرك، فأرببت وأبيت، فقالا: اذهبي إلى التنور فبولي فيه، فذهبت إليه فبلت فيه، فرأيت فارساً مقنعاً بحديد خرج مني فذهب في السماء وغاب حتى ما أراه، فجئتهما فقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ قلت: رأيت فارساً مقنعاً خرج مني فذهب في السماء وغاب حتى ما أراه، فقالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي، فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئاً وما قالا لي شيئاً، فقالت: بلى، لم تريدي شيئاً إلا كان، خذي هذا القمح فابذري، فبذرت وقلت: اطلعي، فأطلعت، وقلت: احقلي فأحقلت].
أي: أنها بذرت فطلع النبات ثم صار سنبلاً في الحال.
قالت: [ثم قلت: افركي فأفركت].
أي: أن الحب خرج من السنبل.
قالت: [ثم قلت: أيبسي فأيبست].
أي أن الحب يبس في الحال بعد أن كان السنبل حباً رطباً.
قالت: [ثم قلت: اطحني فأطحنت].
أي أن الحب طحن في الحال.
قالت: [ثم قلت: اخبزي فأخبزت، فلما رأيت أني لا أريد شيئاً إلا كان سُقِط في يدي وندمت -والله! يا أم المؤمنين- ما فعلت شيئاً ولا أفعله أبداً.
ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان به مطولاً كما تقدم، وزاد بعد قولها: (ولا أفعله أبداً) فسألت أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهم يومئذ متوافرون- فما دروا ما يقولون لها، وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلمه، إلا أنه قد قال لها ابن عباس أو بعض من كان عنده: لو كان أبواك حيين أو أحدهما -قال هشام:- فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان.
قال ابن أبي الزناد: وكان هشام يقول: إنهم كانوا من أهل الورع والخشية من الله، ثم يقول هشام: لو جاءتنا مثلها اليوم لوجدت نوكى أهل حمق وتكلف بغير علم، فهذا إسناد جيد إلى عائشة رضي الله عنها].
النوكى: الحمقى، جمع أحمق، والحديث ليس فيه أنها فعلت السحر، إنما فيه أنها بذرت وحقلت وطحنت وخبزت في الحال، فيحتمل أن هذا من كذب المرأة أو من كذب العجوز، وليس فيه أنها تقربت للشيطان، إنما فيه أنها بالت على التنور فقط.
وقوله: [فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان]، لا أدري ما المقصود به؛ فليس فيه أنها أخذت شيئاً فتضمنه.
وقولها: [فأرببت] أي: دنوت منه، وأربت: أقمت في المكان.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد استدل بهذا الأمر من ذهب إلى أن الساحر له تمكن في قلب الأعيان؛ لأن هذه المرأة بذرت واستغلت في الحال، وقال آخرون: بل ليس له قدرة إلا على التخييل، كما قال تعالى {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]].
الصواب أن السحر منه ما هو حقيقة ومنه ما هو خيال، فهو يقتل ويمرض ويفرق بين المرء وزوجه، ولا يقلب الأعيان، وسيأتي أن بعض أهل البدع يقول: إن الساحر يقلب الإنسان حماراً والحمار إنساناً، والحجر ذهباً والذهب حجراً، وهذا ليس بصحيح، ويقولون: إنه إذا تكلم بالكلمة السحرية قلب الله له الشيء إلى ما يريد.
فالصواب أن له حقيقة، فهو يمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه، أما مسألة قلب الأعيان فهي مسألة أخرى، فإنه لا يقدر على قلب الأعيان أحد، وإنما يقدر الساحر على التخييل، كأن يكرِّه الزوج إلى امرأته فتراه بصورة قبيحة حتى تفارقه، والعكس، فيجمع ويفرق، ويسمى هذا العطف والصرف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، واستدل به على أن بابل المذكورة في القرآن هي بابل العراق لا بابل ديناوند كما قاله السدي وغيره.
] جاء في معجم البلدان: قيل بابل العراق، وقيل: بابل دنباوند.
وقال أيضاً في دنباوند: جبل من نواحي الري.
وبلاد الري هي في جهة إيران وأفغانستان اليوم.