قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:80].
قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى إخباراً عن اليهود في ما نقلوه وادعوه لأنفسهم من أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة، ثم ينجون منها، فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا} [البقرة:80] أي: بذلك، فإن كان قد وقع عهد فهو لا يخلف عهده، ولكن هذا ما جرى ولا كان، ولهذا أتى بأم التي بمعنى بل، أي: بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه.
قال محمد بن إسحاق بن سيف: عن سليمان عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن اليهود كانوا يقولون: إن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوماً في النار، وإنما هي سبعة أيام معدودة، فأنزل الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] إلى قوله: {خَالِدُونَ} [البقرة:81].
ثم رواه عن محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
وقال العوفي: عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80]: اليهود قالوا: لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة، زاد غيره: وهي مدة عبادتهم العجل، وحكاه القرطبي عن ابن عباس وقتادة.
وقال الضحاك: وقال ابن عباس: زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوباً أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم التي هي نابتة في أصل الجحيم.
وقال أعداء الله: إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم، فتذهب جهنم وتهلك، فذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80].
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] يعني: الأيام التي عبدنا فيها العجل.
وقال عكرمة: (خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة، وسيخلفنا فيها قوم آخرون يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رءوسهم: بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم فيها أحد فأنزل الله عز وجل: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] الآية).
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه رحمه الله: حدثنا عبد الرحمن بن جعفر حدثنا محمد بن محمد بن صخر حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ حدثنا ليث بن سعد حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لي من كان من اليهود هاهنا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أبوكم؟ قالوا فلان: قال: كذبتم، بل أبوكم فلان، فقالوا: صدقت وبررت، ثم قال لهم: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم! وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخسئوا، والله لا نخلفكم فيها أبدا، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم! قال: هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟ فقالوا: نعم، قال: فما حملكم على ذلك؟ فقالوا: أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك) رواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي من حديث الليث بن سعد بنحوه].
فهذه الآية الكريمة فيها بيان الأماني التي يتمناها اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وأنهم قالوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] وهذه الأيام المشهور أنها الأيام التي عبدوا فيها العجل، وقيل غير ذلك.
وفي هذا الحديث الصحيح الثابت أنهم قالوا: نمكث فيها يسيراً ثم تخلفونا، فهم ادعوا هذه الدعوى، وهذا من باب الأماني، والأماني التي ليس عليها دليل لا يعول عليها وهي باطلة، ولهذا أنكر الله عليهم ذلك، فقال: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} [البقرة:80].
فاليهود الذين ماتوا على الكفر خالدون مخلدون فيها نسأل الله العافية، وكل من مات على الكفر فهو مخلد في النار لا يخرج منها أبد الآباد، وأما دعوى اليهود أنهم يمكثون فيها يسيراً، أو مدة أربعين يوماً، أو مدة سبعة أيام، فكل هذا من الأماني الباطلة التي قال الله في نظيرها لما قالوا: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111] فرد الله عليهم: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].
فالواجب على المسلم ألا يدعي دعوى إلا بدليل، وينبغي للمسلم أن يبتعد عن الأماني الباطلة، وأن يكون جاداً في العمل، فيتوب إلى الله عز وجل ويعمل الأعمال الصالحة، ويترك التعلق بالأماني الباطلة، والتعلق بما عليه الآباء والأجداد، ولن ينفع الإنسان إلا عمله، ولهذا قال النبي عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) والأنساب والأحساب والأموال والجاه والسلطان والأماني كلها لا تنفع الإنسان، وما ينفع الإنسان إلا ما قدم من عمل صالح.