تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة)

قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:26 - 27].

قال المصنف رحمه الله: [قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين -يعني قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة:17]، وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة:19] الآيات الثلاث- قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله تعالى: {هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27].

وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: لما ذكر الله تعالى العنكبوت والذباب، قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]، وقال سعيد عن قتادة: أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئاً مما قل أو كثر، وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]].

وفي هذه الآية إثبات صفة الحياء لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته، وكذلك في قول الله تعالى: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53] قالت أم سليم للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة غسل إذا هي احتلمت؟ قال: نعم.

إذا رأت الماء) وفي الحديث الذي رواه البخاري في قصة الثلاثة الذين أتوا وهو يحدث الناس، قال: (أما أحدهما: فآوى فآواه الله، وأما الثاني: فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث: فأعرض، فأعرض الله عنه).

فالحياء ثابت لله كما يليق بجلاله وعظمته، {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53] ولا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة، ولا يستحي من الحق سبحانه وتعالى؛ ولهذا أدب الله المؤمنين بأنهم إذا جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم وانتهوا من الطعام أن ينتشروا؛ لأن ذلك يؤذي النبي وهو يستحي، والله لا يستحي من الحق.

نزلت هذه الآية في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بـ زينب كما في البخاري وأنه أشبعهم عليه الصلاة والسلام في ذلك اليوم خبزاً ولحماً، وأنهم دخلوا وأكلوا، ولما انتهوا جلس جماعة يتحدثون، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يستريح فوجدهم يتحدثون، فذهب إلى بيت عائشة وتبعه أنس ولم ينتبهوا له، ثم رجع فوجدهم، ثم لما جاء في المرة الثانية قاموا، فأنزل الله هذه الآية: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53] ففيه إثبات الحياء لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015