البحث الخامس
هيئة التشريح وآلاته
أما تشريح العظام والمفاصل ونحوهما فيسهل في الميت من أي سبب كان موته. وأسهل ذلك إذا مضى على موته مدة فني فيها ما عليه من اللحم وبقيت العظام متصلة بالأربطة ظاهرة. فإن هذا لا يفتقر فيه إلى عمل كبير حتى يوقف على هيئة عظام، ومفاصله.
وأما تشريح القلب والشرايين، والحجاب والرئة، ونحو ذلك، يتوقف على كيفية حركتها. وهل حركة الشرايين مصاحبة لحركة القلب، أو مخالفة وكذلك حركة الرئة مع حركة الحجاب.
ومعلوم أنه إنما يوقف عليه في تشريح الأحياء، ولكن يعسر ذلك بسبب اضطراب الحي لتألمه.
وأما تشريح العروق الصغار التي في الجلد، وما يقرب منه فيعسر في الأحياء لما قلناه، وكذلك في الموتى الذين ماتوا بمرض ونحوه. وخصوصاً إذا كان من الأمراض يلزمه قلة الدم والرطوبات فتختفي تلك العروق، كما في الإسهال والدق والنزف.
وأسهل تشريح هذه ما يكون في ميت مات بالخنق، لأن الخنق يحرك الدم والروح إلى خارج فتمتلئ هذه العروق وتنتفخ. ويلزم أن يكون ذلك عقيب الموت، لأن الزمان إذا طال جمد ما يكون في هذه العروق من الدم فيقل حجمه، ويلزم ذلك نقصان انتفاخ تلك العروق.
قال جالينوس: إن عادتي أن أخنق الذي أريد تشريحه بالماء كيلا يرتض أو يتفسخ شيء من أجزاء العنق لو خنق بحبل ونحوه.
والله ولي التوفيق
القسم الأول
صور الأعضاء الباطنة
الجملة الاولى
العظام
الفصل الأول
قول كُليّ في العظام
الشرح العظم عضو تبلغ صلابته إلى حد لا يمكن ثنيه، وهذا التعريف تدخل فيه الأسنان فإن أردنا خروجها زدنا في التعريف قولنا: منوي أو فاقد الحس لقولنا عضو منوي تبلغ صلابته إلى حد لا يمكن ثنيه أو نقول: عضو فاقد للحس تبلغ صلابته إلى حد لا يمكن ثنيه. والمفصل في اللغة موضع الانفصال وقد نقل جالينوس عن بقراط ما يقرب من ذلك إذ قال: إنه يسمى رأس العظم المستدير الذي يدخل في العظم الآخر مفصلاً.
وأقول: إنما هذا لأنه موضع الانفصال.
وأما المشهور والمستعمل فإن معنى المفصل عند الِأطباء، هو موضع التقاء عضوين التقاء طبيعياً وإنما قلنا التقاء طبيعياً ليخرج التقاء العظام وإنما سمي ذلك مفصلاً، لأن هناك ينفصل جرم كل واحد من العظمين من الآخر.
قال جالينوس: المفصل تأليف طبيعي للعظام، وفي بعض النسخ عوض التأليف تركيب. والتأليف أولى لأنه ضم شيء إلى شيء بينهما تأليف أي تناسب.
وتركيب المفصل لا بد وأن يكون كذلك؛ لأن الجزأين لا بد وأن يكون بينهما تناسب في المقدار والشكل ونحوهما.
لكن جالينوس قال بعد ذلك: ومعنى قولي تركيب وتأليف ومجاورة وملاقاة معنى واحد واعلم أن هذا الحد مشكل من وجهين: أحدهما: أن المفصل ليس بتأليف ولا تركيب بل هو متألف، فإن التأليف هو ما يفعله المؤلف وذلك يرتفع عند ارتفاع فعله.
وثانيهما: أن العظام الملتحمة بالطبع يصدق على لحامها أنه تأليف طبيعي وهو عند جالينوس ليس بمفصل لأنه قال: إن تركيب العظام على قسمين أحدهما على جهة والمفصل على جهة الالتحام.
قال: والالتحام اتحاد طبيعي للعظام. بقي ها هنا بحث، وهو لزوم أن يشترط في المفصل أن يكون من عظمين كما هو ظاهر كلام جالينوس حيث يشترط ذلك.
فإن كان الأول لم يشترط التقاؤهما، إذ أكثر المفاصل لا بد وأن يكون بين عظمها إما غضروف واحد كما في عظام القص وإما غضروفان كما في المفاصل المتحاكة كمفاصل اليدين والرجلين. فإن كل عظم منها على رأسه غضروف فيكون الالتقاء بين الغضروفين لا بين العظمين.
فإن كان الثاني فلا يكون المفصل فالالتقاء شرط.
وأما أي هذين أولى، فلقائل أن يقول إن الأول أولى لأنه الظاهر من كلام الأطباء لأنهم يقولون مفاصل عظام القص ومفاصل عظام اليدين والرجلين.
ولقائل أن يقول: بل الثاني أولى: لأنه المفهوم في العرف الظاهر العام من اصطلاح الأطباء لذلك. وأنه أقرب إلى المفهوم اللغوي.
والذي يظهر لي والله أعلم، أن هذا الثاني أولى.
وقول جالينوس: تأليف طبيعي للعظام، وقول الأطباء عظام القص، أو مفاصل عظام اليدين والرجلين، يريدون بالعظام ها هنا ما يدخل فيه الغضاريف التي بين العظام، فإن الناس من عادتهم أن يعدوا هذه من العظام.