ومعلوم أن هذه الأشياء ليست القوة التي فيها قوة واحدة، بل كثيرة جداً فلذلك قوة السمع لا تمتنع عليها أن يكون متكثرة بخلاف قوة البصر. وإنما قلنا إن قوة السمع من جنس قوة اللمس لأن إدراك قوة السمع إنما هو التموج الحاصل في الهواء الراكد في داخل الأذن النافع لتموج الهواء الحامل للصوت، وإدراك هذا التموج هو بانفعال الحاسة عنه، كما تنفعل حاسة اللمس عن الملموسات الحارة والباردة والخشنة ونحو ذلك وتحقيق الكلام في هذا وبسطه الأولى به في غير هذا الكتاب. وهذا العصب النوري هولا محالة كباقي الأعصاب مغشى بغشائين: أحدهما: من الأم الجافية، وهو الأعلى منهما.
والآخر من الأم الرقيقة، فيكون لا محالة كثير العروق كما في تلك الأم فإذا بلغ هذا العصب مع الغشاءين المغشيين له إلى عظم الحجاج، وهذا العظم الذي فيه نقرة العين انبسط طرف كل واحد من ذلك وانفرش بقدر سعة تلك النقرة ثم انضم طرفه وصار من مجموع ذلك العضو الذي يسمى المقلة.
قوله: اتسع طرف كل واحد منها وامتلأ وانبسط واتسع اتساعاً يحيط بالرطوبات التي في الحدقة.
يريد بقوله: وامتلأ وغلظ وسمن. وما أشبه ذلك. وذلك لأن طبقات العين أكثرها أغلظ من كل واحد من الغشاءين اللذين على العصب النوري.
وقوله: يحيط بالرطوبات المشهور أن هذا الاتساع يقدر قدر الرطوبات التي في المقلة حتى تكون الطبقة الحادثة من جرم العصب مشتملة على الرطوبة الجليدية اشتمال الشبكة على الصيد، وهذا لا يصح فإن مقدار الرطوبات أصغر كثيراً من المقلة، ولو كانت الطبقة معها كما قالوه لزم أن تكون المقلة أصغر مما هي عليه، وأصغر من نقرة العين، فلم تكن المقلة ملتصقة بالعظم بل مسربة عنه. وليس كذلك. بل الحق أن اتساع العصب مع الأغشية بقدر نقرة العين وتبقى الرطوبات في الوسط مائلة عن ثقب العصب النوري إلى جهة الموق الأكبر، ولو كانت هذه الرطوبات مالئة لتجويف العصب النوري لكانت سادة له فكان يمنع نفوذ الروح إلى المقلة، ومن المقلة إلى أمام القوة الباصرة فكان الإبصار يتعذر كما يتعذر لسدة أخرى تقع في هذا العصب.
وقوله: التي في الحدقة. المعروف من الاصطلاح أن العين هي مجموعة المقلة مع الأجفان، وأن الحدقة هي الوضع الذي فيه الثقب العيني، وأن سوى الأجفان من العين هو المقلة. وها هنا يريد بالحدقة المقلة وله أن يصطلح على ذلك ولكنه كان ينبغي أن نبين هذا الاصطلاح أو لاً لنفهم المراد من كلامه ولا يحمل على المعنى المشهور. والله ولي التوفيق.
البحث الثاني
رطوبات العين
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه التي أو سطها الجليدية وهي رطوبة ... إلى قوله: ثم إن طرف العصبة تحتوي على الزجاجية والجليدية.
الشرح إن العين يجب أن يشتمل على رطوبات ثلاث. أما عندهم فلأن الإبصار على قولهم إنما يتم بوقوع الأشباح على الجليدية، وهذه الجليدية مستعدة جداً لسرعة التحلل فلا بد لنا من جسم يمدها بالغذاء لتخلف بدل المتحلل منها فلا يفنى بسرعة، وذلك الجسم لا يمكن أن يكون دماً باقياً على لو نه وإلا كانت هذه الرطوبة تعجز عن إحالته بسرعة إلى طبيعتها فكانت تقل جداً قبل تمكنها من إحالة ما يقوم لها بدل المتحلل فلذلك احتيج أن يستحيل هذا الدم إلى مشابهتها بعض الاستحالة حتى تصير مقتدرة على أخذ الغذاء منه بسهولة ولون هذه الرطوبة مع صفائه وبريقه أبيض فلذلك إنما يصير الدم شبيهاً بها بوجه ما إذا استحال عن حمرته بعض الاستحالة فلذلك يصير لو نه بين البياض والحمرة، وذلك هو لون الزجاج الذائب فلذلك الدم يصل إلى هذه الرطوبة ليغذوها يجب أن يكون كذلك، ولذلك تسمى بالرطوبة الزجاجية ثم إن الجليدية إذا أبعدت من هذه الرطوبة وإحالتها إلى طبيعتها فلا بد من أن تفضل منها فضلة وتلك الفضلة تكون لا محالة قد ازدادت بإحالة الرطوبة الجليدية لها صفاءً وبياضاً فلذلك يكون كبياض البيض. وحينئذٍ تدفع تلك الجليدية تلك الفضلة إلى أمامها فيكون من ذلك الرطوبة البيضية فلذلك لا بد في العين من هذه الرطوبات الثلاث. فهذا مذهبهم في هذه الرطوبات مع تقديرنا له.