[وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا) رواه الترمذي بإسناد ضعيف، وله شاهد من حديث البراء عند ابن خزيمة.
وعن الحكم بن حزن رضي الله عنه قال: (شهدنا الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقام متوكئاً على عصاً أو قوسٍ) رواه أبو داود] .
بعد أن بين وجوب الجمعة على الأعيان وأنها فرض عين، ومن استثنى من ذلك من تلك الأصناف الخمسة ذكر آداب المصلين مع الخطيب فقال: إذا جلس صلى الله عليه وسلم على المنبر -أي: للخطبة- استقبلناه بوجوهنا.
العادة الطبيعية أن المصلين مستقبلون القبلة، والمنبر في قبلية المسجد، فإذا صعد الإمام اتجه إلى الشمال والمصلون متجهون إلى القبلة، فهم مستقبلون بوجوههم، ولكن هذا يصدق لمن هو باتجاه المنبر سواء، أما ميمنة الصف وميسرة الصف فليسوا مستقبلين، إذاً: على من يكون في الميمنة أو في الميسرة أن يستدير ويستقبل الخطيب بوجهه، وليس بلازم أن يستدير بجسمه كاملاً بأن يكون واجهته إلى المنبر.
ولو كان جالساً وأدار وجهه إلى الخطيب مستقبلاً القبلة بصدره، ومديراً وجهه إلى الإمام على المنبر مستقبلاً إياه بوجهه، فهذا من علامات الأدب والإصغاء، والنظر إلى الخطيب وهو يخطب ومتابعته في هذه الحالة توكيد للسماع وتقوية للمعنى؛ لأن حواسه كلها مع الخطيب يسمع بأذنه ويرى بعينه.
وعلى هذا تكون السنة ونحن بالمسجد النبوي فيها مشكلة؛ لأنه دون بقية المساجد، فالمنبر يوجد في حد المسجد النبوي الأول في عهده صلى الله عليه وسلم، ثم جاءت الزيادة التي في القبلة على سمت باب السلام إلى الحجرة، وكانت تسمى الطُرقة (طُرقة باب السلام) طرقة المُسلّمين على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والآن مكان المنبر لا يمكن أن يغير؛ لأنه موضوع على ما وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف المنبر إلى القبلة عدة صفوف أربعة خمسة ستة على حسب الزحام، ماذا يفعل أولئك الذين في جلوسهم مستدبرين المنبر؟ السنة أن يواجهوا الخطيب بوجوههم ولا يعطونه ظهورهم؛ لأن هذا من علامات الإعراض، وبعضهم يقول: كيف نستدبر القبلة ونستقبل المنبر، ولكن لم أجد من استثنى ذلك المكان، فاستقبال الخطيب بالوجه في عامة المساجد هي السنة، ولا يوجد تساؤل إلا في هذا المسجد النبوي وبالنسبة لطرقه فقط.
كذلك الخطيب في مكة المصلون مستقبلون المنبر طبيعياً؛ لأنهم يستقبلون الكعبة بشكل دائمٍ، والمنبر لاصق بالكعبة، فغاية ما هناك أن الذين تقع الكعبة بينهم وبين المنبر لا يستطيعون أن يتطاولوا عليها ولا أن يزيلوها، لكنهم استقبلوا الخطيب بوجوههم، فسواء حصل حاجز أو لم يحصل فذلك ليس بأيديهم.
إذاً: السنة في المستمع أن يستقبل الخطيب بوجهه.
ولذا اتفق الجميع -ما عدا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله ولكن الصحيح عنه كقول الجمهور- أن السنة في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم أن تستقبله بوجهك وتستدبر القبلة؛ لأن أدب الخطاب أن تواجه من تخاطب، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي فأرد عليه السلام) ، فهل تريد أن يرد عليك السلام وأنت مدبر عنه؟ وعند الإمام أبي حنيفة كما ينقلون عنه: إن الأدب أن يقف بجانب الحجرة فيجعلها عن يساره أو عن يمينه، ويستقبل القبلة عند السلام؛ لأن السلام قربة وعبادة، وقبلة القربة والعبادة الكعبة، فيستقبل الكعبة بوجهه ويسلم على النبي من جانبه كما يحدث شخص إنساناً آخر عن جانبه، ولكن الذي رأيناه في مسند أبي حنيفة رحمه الله -وهو مطبوع مع مسند الشافعي رحمهما الله- رواية أبي حنيفة أن السنة والأدب أن تستقبل النبي صلى الله عليه وسلم أي: الحجرة الشريفة عند السلام عليه.
فيكون قد وافق الجمهور في أن الأدب عند السلام على النبي صلى الله عليه وسلم أن يستقبل الحجرة الشريفة فيستقبل وجه النبي صلى الله عليه وسلم.