قوله:: [ (فصلى ما قدر له) ] .
يفهم منه أن إتيانه إلى الجمعة بعد أن يغتسل يكون قبل وجوب الصلاة والأذان لها، لا بعد وجوب الصلاة، والدليل قوله: (فصلى ما قدر له) ، فلو أنه أتى إلى الجمعة بعد النداء، فليس بعد النداء صلاة نافلة، وإنما الواجب الإصغاء بعد النداء لخطبة الإمام، ويستثنى الداخل بعد ذلك، فيركع ركعتين ويتجوز فيهما.
فإتيانه في هذا الحديث إتيان قبل الزوال، وقبل الأذان الذي للوقت.
وقوله: (فصلى ما قدر له) .
أي: كل واحد بحسب ما يتيسر له.
وقوله: (ثم أنصت) ، أي: إلى الإمام حينما يصعد المنبر حينما ينادى للجمعة عند دخول الوقت، أي عند الزوال.
قوله: (ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته) ، أي: أنصت وقت الخطبة، وقبل الخطبة لا مانع أن يتكلم، ولا مانع أن يصلي بعد الخطبة، وبعض الناس يتحرج من الكلام بعد فراغ الإمام من الخطبة حتى يدخل في الصلاة، وهذا ليس بصواب، فالمنهي عنه يكون من شروع الخطيب في الخطبة إلى أن ينتهي، وقبل ذلك وبعده لا حرج فيه.
قوله: (ثم يصلي معه) أي: لا يسمع الخطبة وينصرف قبل أن يصلي معه.
قوله: (غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام) ، هذا الحديث صالح لبيان فضيلة الغسل يوم الجمعة، وفضيلة الجمعة في ذاتها، فمن اغتسل يوم الجمعة، ثم أتى الجمعة، ثم أنصت للإمام، ثم صلى مع الإمام، غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، والأسبوع سبعة أيام، والحسنة بعشر أمثالها، وزيادة ثلاثة أيام على الأسبوع يصير بها اليوم عن عشرة أيام، والحسنة بعشر أمثالها.
ونقف هنا وقفة بسيطة، فبعض المسلمين -هداهم الله- قد يتساهلون في حضور الجمعة، ويجعلون يوم الجمعة للتنزه، وكأن يوم الجمعة ليس له أثر، وكل ما عندهم من أعمال في الأسبوع يؤخرونها إلى يوم الجمعة، ويشتغلون يوم الجمعة، ويضيعون الجمعة، فلا يبكرون، ولا يصلون ما تيسر لهم، فأي فضيلة بعد ذلك؟ والذي ينبغي هو أن يتنظف الإنسان، ثم يأتي المسجد فيصلي ما تيسر له، فهو يستريح من عناء العمل الذي كان فيه، فالموظف مع مراجعيه، والصانع مع عماله، والزارع في مزرعته، وكل إنسان طيلة الأسبوع في جهد بدني وفكري، فشرع الله له يوم الجمعة ليستريح ويتنظف ويسترجع قواه، فتجدد العافية، ويتغذى لروحه، ويحصل على مغفرة عشرة أيام، فأكبر تاجر في البلد يوم الجمعة لا يحصل من تجارته مثل ما يحصل يوم الجمعة، كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] .
فالعاقل لا ينبغي له أن يتهاون بأمر الجمعة ما دامت فيها هذه الفضيلة، وكذلك الغسل، وسيأتي في الحديث عند البخاري: (ومس من طيب أهله) .
وقد جاء في حديث آخر: (غسَّل واغتسل) يقول بعض العلماء: غسل ثوبه واغتسل في بدنه.
وبعضهم يقول: (غسَّل واغتسل) لفظ يفيد اشتراك طرفين.
فيستحب يوم الجمعة أن تغتسل، وأن تتطيب وتلبس أحسن ما عندك من الثياب، وتأتي لتقابل إخوانك.
فكيف تشتغل عنها وتتركها؟ نسأل الله السلامة والعافية.
ومن المباحث الغسل يوم الجمعة والمقارنة بينه وبين الوضوء، لحديث: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) وقد أطلق الاغتسال في قوله صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل يوم الجمعة) وبعض العلماء يقول: لو أن شخصاً أجنب فأوقع غسل الجنابة بعد طلوع الفجر، ونوى بهذا الغسل رفع الجنابة وسنة اغتسال الجمعة، فإنه يجزئه عند من يقول الغسل سنة، ومن يقول الغسل واجب يقول لا يجزئ واجب عن واجب، فيغتسل للجنابة ثم يغتسل إذا راح إلى الجمعة، ويكون غسل الجمعة مستقلاً.
ولكن الجمهور على أن المراد اغتسال يوم الجمعة بسبب أو بغير سبب، ونظروا كما يقول الشافعي وغيره إلى علة الغسل يوم الجمعة -وهو سنة- فهو معلل بالحث على النظافة في هذا الاجتماع، كما قال ابن عباس: كان الناس يعملون لأنفسهم، ويلبسون الصوف والخشن من الثياب، فيأتون من أعمالهم والمسجد ضيق والجو حار، فيعرقون فيؤذي بعضهم بعضاً.
وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: كان الناس عمال أنفسهم، وكانوا يأتون من عملهم في الغبار ويعرقون، فدخل أحدهم على رسول الله وهو عندي، فقال: (غسل يوم الجمعة واجب) ، فأمر بالغسل، فقالوا: إن الأمر بالاغتسال يوم الجمعة من أجل النظافة.
والجمهور قالوا: إن كانت العلة النظافة فقد صار مشروعاً لذاته، فلو أن إنساناً في الظل، وعلى فراش النعيم، وفي بعد عن الغبار، وأراد أن يأتي الجمعة، فإن عليه أن يغتسل للجمعة، كما أنه لو كان قبل الجنابة في الحر الشديد ودخل الحمام واغتسل للتبريد ثم جاءت الجنابة بعد الغسل بدقائق فلا يكفيه الاغتسال الذي قبل الجنابة، فالجنابة جاءت بوجوب الغسل، فكذلك الجمعة جاءت بسنة الغسل، وكثير من الأشياء تشرع لأسباب فتزول أسبابها وتبقى المشروعية.
فالهرولة في الطواف كان سببها لما دلس إبليس على المشركين ووسوس لهم وقال: لو ملتم عليهم ميلة رجل، فقد أنهكتهم حمى يثرب والسفر فلما هرول الصحابة وأظهروا القوة قالوا: والله إنهم لكالجن، ثم جاءت السنة الثامنة وفتحت مكة، وأمن المسلمون، وجاء المصطفى صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة حاجاً فهرول، وقد سأل رجل عمر رضي الله تعالى عنه: كنا نهرول عند الخوف وقد أمنا فعلام نهرول؟ قال: يا ابن أخي! سألتني فيما سألت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أو قال: هرول رسول الله صلى الله عليه وسلم فهرولنا، ثم حج فهرول ونحن في أمن فهرولنا.
فالعلة وجدت ثم زالت وبقيت المشروعية.
وكذلك رمي الجمار، فإبراهيم عليه السلام حصب الشيطان لما جاءه ووسوس له: كيف تذبح ابنك؟ فقال: اخسأ يا لعين! ورماه بالحصيات، والآن ما عندنا شيطان يوسوس، ولا أحد يذبح ولده، ولو كان ولده أتقى خلق الله فلن يطيع الله في ذبح الولد حتى لو قال له: اقطع يده فلن يقطعها إلا أن يشاء الله.
وبعض الصحابة قيل له: أكنتم تطيعون رسول الله في كل شيء؟ قال: نعم.
والله لو أمرنا بقتل أنفسنا لقتلنا أنفسنا.
وهذا ليس من الطاعة العمياء بل هي الطاعة المبصرة؛ لأنه يعلم أنه يطيع الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] .
ومما شرع لعلة ثم بقي مع زوالها القصر لقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] .
فإذا كنا آمنين مطمئنين حال سفرنا من مكة إلى المدينة فلنا أن نقصر الصلاة، فزال السبب وبقيت المشروعية.
فكان السبب في اغتسالهم يوم الجمعة كونهم يعرقون وتخرج منهم روائح العمل والغبار.
ولذا جاء في الحديث: (فلما كفوا المئونة) ، أي: لما جاءت الفتوحات، وجاءتهم العلوج -أي: العبيد- وكفتهم المئونة رخص لهم في ترك الغسل.
ونقول: الترخيص بنص؛ لأنه جاء في الحديث: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) ، فالأمران مشتركان في الأفضلية، وعثمان رضي الله عنه لما دخل رضي الله عنه وعمر يخطب فقال: أي ساعةٍ هذه؟ قال: ما إن سمعت الأذان أو النداء حتى توضأت وأتيت.
فقال عمر: والوضوء أيضاً؟ وأقره على الوضوء جميع الصحابة الحاضرين الذين يسمعون عمر، فالجمعة تصح بالوضوء، ولكن الغسل من أجلها أفضل.