وأما الخلاف في الإصغاء أهو واجب أو ليس بواجب فالجمهور على وجوبه، بدليلٍ أن الكلام يلغي فضل الجمعة، وأما هل تجزئه عن الظهر أو لا فهذا خلاف آخر.
فالإصغاء إلى الخطبة أهم من تحية المسجد، ولو كان الأمر كذلك لكان تقديم الإصغاء على تحية المسجد مقدماً، ولكن -كما يقول العلماء- لا نقيس وعندنا نص، فهذا رجلٌ دخل فسأله النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أمره أن يقوم فيصلي، وبذلك استدل أيضاً بعض العلماء على أن تحية المسجد لا تسقط بالجلوس؛ لأنه بعدما جلس قال ل: (هقم فصل ركعتين) ، وبعضهم يقول: إلا يوم الجمعة.
فالخلاف في ذلك طويل، ومالك رحمه الله وأهل المدينة يعتبرون اتفاق أهل المدينة على عدم الصلاة وقت الخطبة للقادم وللجالس على عموم النهي، ولكن جاء أن أحد فقهاء المدينة السبعة سعيد بن المسيب رحمه الله ورضي الله عنه دخل ومروان بن الحكم -وهو أمير المدينة- يخطب، فقام ليصلي ركعتين، فجاء حرس مروان الأمير ليمنعوه، فلم يمتنع حتى صلى الركعتين، ثم قال: ما كنت لأدعهما وقد سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بهما.
ثم الذين يقولون بهما قالوا: ورد الأمر بالإصغاء والإنصات هو حتى لا تشغل غيرك، ولا تشوش على الآخرين، وهذا المصلي لم يتكلم مع غيره، ولم يشوش على غيره، وصلاته لا تمنعه أن يسمع خطبة الإمام؛ لأنه يصلي صلاة سرية، والخطبة تأتي إلى مسامعه، فقد يسمع ذلك ولا يفوته منها شيء.
ثم مراعاة للواقع جاء في الحديث: (وتجوز) ، ومعنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لحظ ما يجب على المصلي من الإصغاء، ولحظ ما ينبغي للقادم من الصلاة، فجمع بين الأمرين: الإصغاء مع الصلاة، فالإصغاء في كونه يتجوز، أي: يخفف ويقصر الزمن، فلا يفوته الكثير من الخطبة، ويأتي بتحية المسجد فلا يضيعها، ويكون قد جمع بين الأمرين.
والجمهور على أنه يترك ولا يصلي، والشافعي رحمه الله على أنه يصلي ويتجوز فيهما، وعلماء الحديث قاطبة على تقديم هذا الحديث على العمومات الأخرى، قالوا: عمومات النهي يخصصها القادم يوم الجمعة وقت الخطبة، وأحاديث النهي عن الصلاة في الأوقات السبعة على ما هي عليه، وهذه خصت كما خصت الصلاة بعد العصر بقضاء الفائتة، وكما خصت غيرها بصلاة الكسوف أو غيرها في أوقات النهي، فهذا الحديث يخصص عمومات النهي عن الصلاة في تلك الأوقات.
ومن أجوبتهم أيضاً: أن الحديث قد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه بأنه دخل رجل والنبي يخطب، وليس فيه ذكر يوم الجمعة، قالوا: فلعل ذلك يكون في غير يوم الجمعة فيكون بعيداً من الوقت المنهي عنه.
ولكن أجيب عن ذلك بأنه صرح في الحديث أنه كان يخطب يوم الجمعة، ومعلوم عندنا أن الجنس يقدم فيه أعلاه، فالخطبة أعلاها في الإسلام هي خطبة الصلاة ليوم الجمعة، ولا يكون يوم الجمعة خطبة في العادة إلا للصلاة، وقد تكون خطبة بعد العصر أو في الضحى لأمر آخر، لكن إذا أطلقت انصرف المعنى إلى خطبة الصلاة وخطبة الجمعة بذاتها، وعلى هذا فالأنسب للقادم إلى المسجد والإمام يخطب أن يصلي الركعتين متجوزاً فيهما.