ويتفق العلماء على أنه لا يوجد نصٌ صحيح صريح يحدد عدد الذين تجب عليهم الجمعة وتصح منهم، ولذا يرجح عامة الفقهاء ما ذهب إليه مالك رحمه الله.
وكذلك نرجع إلى وجهة نظر من قال بالثلاثة كما أشرنا، وبعضهم يعزو ذلك لـ أبي يوسف ومحمد، أو الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وهذا غير صحيح.
والذين قالوا بثمانية أو بعشرة أو باثني عشرة يختلفون في العدد الذي بقي عند سماع اللهو والتجارة والرسول صلى الله عليه وسلم قائمٌ يخطب، فمن ثبت عنده ثمانية، قال: أقل ما يكون ثمانية.
ومن ثبت عنده عشرة قال بالعشرة، ومن قال: كانوا اثني عشر قال: أقله اثنا عشر.
والجواب عمن استدل بذلك بإجماع الأصوليين وعلماء الحديث، حيث يقولون: هل الرسول قال لا تصح إلا باثني عشر؟ إنما قال: (لو انفضوا جميعاً لسال بهم الوادي ناراً) .
فهؤلاء أخذوا من ذلك أن أقل ما يقع به الواجب -وهو انعقاد الجمعة- هذا العدد الذي بقي، ويقولون: إنها قضية عين؛ إذ كان من الممكن أن يبقى عشرون أو ثلاثون أو خمسة، فليست هناك قاعدة، وليس هناك ما يفهمنا ويوحي إلينا بأن عدداً معيناً كان ينبغي أن يبقى.
فما دامت هذه الاحتمالات قائمة فلا ينبغي التعويل على اعتماد العدد الذي بقي أنه أقل ما تنعقد به الجمعة، أما الذين قالوا بأربعين فلأنه العدد الذي كان في أول جمعة جمعت بالمدينة، وفي سبب إقامة أول جمعة اختلاف.
فقيل: بسبب مصعب بن عمير، وقيل غيره، وقيل: إن المهاجرين الأولين قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة رأوا اليهود يجتمعون في يوم سبتهم ويقرءون الزبور، فقالوا: لو اتخذنا يوماً نجتمع فيه ونذكر الله! فاجتمعوا وصلوا ركعتين وذكروا الله، فسموا ذلك اليوم يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، فقيل لبعضهم: كم كنتم؟ قال: كنا أربعين رجلاً، فقالوا: هذه أول جمعة أقيمت بالمدينة وكان العدد أربعين! فيقال أيضاً: هل هذا تحديد من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإن هذا العدد الذي حصل كان يمكن أن يزيد ويمكن أن ينقص، فكونه صادف وجود أربعين رجلاً ليس بحجة ولا دليل على أن أقل عدد تنعقد به الجمعة أربعون رجلاً، بل في بعض الروايات أن الذي جمع لهم ذبح لهم شاة فتغدوا وتعشوا منها.
وأعتقد أن الشاة لا تكفي لغداء وعشاء أربعين رجلاً ولا عشرين رجلاً، فالمسألة تدور على تقدير العدد.
وناحية أخرى هي لو سلم أنهم كانوا أربعين، فهل الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إذا اجتمعتم أربعين فصلوا الجمعة؟ وبعض الروايات فيها مقال، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليهم من مكة أن اجتمعوا أو اتخذوا يوماً تجتمعون فيه تذكرون الله، فاتخذوا ذلك اليوم، ولم يحدد عدداً، فالذين قالوا بواحد أو بثلاثة ليس لهم إلا استدلال لغوي لا دخل له في الأحكام الشرعية.
ومن قال بالعشرة أو بالثمانية أو بالاثني عشر كل ذلك مرتبط بقضية الذين انفضوا عن رسول الله وبقي هو في المسجد يخطب، والذين قالوا بعشرين أو قالوا بثلاثين -كما روي ذلك عن مالك رحمه الله- إنما اختلفوا في العدد.
وكذلك الذين قالوا بأربعين، فقد بنوا على أول عدد انعقدت أو صليت به الجمعة، قالوا: الذين حضروا آنذاك كان عددهم أربعين رجلاً، وعلى هذا لم يكن في تحديد العدد نصٌ صحيح صريح في أي ديوان من دواوين السنة.