ولكن المؤلف رحمه الله لما أتى بحديث أنس وهو متفق عليه أتبعه بما يوجد من النصوص لما ينبغي النظر فيه من حيث صناعة علوم الحديث؛ ليبين مواقف الأئمة أو العلماء الآخرين من حديث أنس هذا، وهل حديث أنس مقتصر على ذلك أم له طرق أخرى وزيادات؟ فجاء المؤلف بما يزيد على قول أنس رضي الله عنه.
فقال: [وفي رواية للحاكم في الأربعين بإسناد صحيح: (صلى الظهر والعصر ثم ركب) .
وفي رواية لحديث أنس عند غير البخاري ومسلم، أتى بها الحاكم في مصطلح الحديث شأنه عجيب، يقولون: الحافظ من حفظ مائة ألف حديث، والحجة من حفظ ألف ألف حديث، والحاكم من حفظ كل ما يؤثر عن رسول الله، ونحن كم حفظنا؟ والله نحن صفر في الخانة الرابعة على الشمال، لأنا ما حفظنا شيئاً، وأعتقد أن الذي يدعي في الوقت الحاضر أنه من أهل الحديث قد ظلم نفسه، ولا أقول: ظلم الحديث بل ظلم نفسه.
فـ الحاكم روى حديث أنس، والحاكم حافظ استوعب كل شيء، فهو يروي حديث أنس الذي رواه الشيخان، وهل رواية الشيخان للحديث تمنع أن يرويه غيرهما؟ لا، لأنهما ما قالا: قد استوعبنا كل ما يمكن أن يكون على شرطنا، فقد يتركون من الأحاديث ما استوفى شرطهما من اللقاء أو احتمال اللقاء، مع الثقة والعدالة والحفظ في كل راوٍ، لكن ما استوعبا كل هذه الأوصاف، بل اختاروا وانتفيا.
إذاً: البخاري ومسلم ساقا لنا حديث أنس على هذا الوضع، وغيرهم ساق لنا الحديث برواية أخرى.
قوله: [وفي رواية للحاكم في الأربعين بإسناد صحيح: (صلى الظهر) ] وورودها بإسناد صحيح، معناه أنه ليس لأحد أن يناقش فيها بعد ذلك.
إذاً: الحاكم حكم بأن إسناده صحيح فمن يقدر أن يعارض، فحكم الحاكم يرفع الخلاف.
إذاً: وفي رواية للحاكم في الأربعين التي اختارها بإسناد صحيح.
(صلى الظهر والعصر ثم ركب) .
كأن أنساً رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر وصلاها مع العصر، وإذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس صلى الظهر والعصر ثم ركب.
إذاً: الفرق بين رواية الحاكم ورواية الشيخين في حديث أنس هي: ذكر العصر مع الظهر في وقت الظهر.
إذاً: سكوت الشيخين في رواية أنس عن تقديم العصر يأتي في رواية الحاكم وتثبت ما أسقطه الشيخان، فهذه زيادة عما في الصحيحين، والزيادة من ثقة، وزيادة الثقة عن المحدثين مقبولة.
إذاً: المؤلف رحمه الله بفعله هذا بين لنا صناعة الحديث، أن حديث أنس في رواية الشيخين اقتصر على الظهر فقط في وقت الظهر، وجاءنا غيره برواية ثقات بزيادة العصر معها.
إذاً: عند الحاكم جمع تقديم وتأخير، وليس جمع تقديم فقط.
وهنا وقفة أيضاً: أخذ الشافعي وأحمد أن الجمع بين الصلاتين المشتركتين في الوقت سنة عنه صلى الله عليه وسلم، إن شئت في التقديم وإن شئت في التأخير، ولكن على هذا الترتيب: إن كان الرحيل بعد دخول وقت الأولى صلاها وقدم الثانية معها، وإن كان الرحيل قبل دخول الأولى أخر الأولى إلى وقت الثانية وصلاهما معاً، فهذا قال أحمد الشافعي، وقد انتهينا من ابن حزم في قوله بجمع التأخير فقط، وجاءنا هنا أحمد والشافعي رحمهما الله بقول في رواية الحاكم بأنه كان يجمع الظهر والعصر إذا دخل وقت الظهر قبل أن يرحل، وأخر الظهر مع العصر إذا ارتحل قبل دخول الظهر، وقالوا: لك أن تجمع على أي صورة شئت تقديماً أو تأخيراً.