الفرق بين تحقيق المناط وتنقيح المناط: قلنا: إن الأصوليين يقولون: تحقيق المناط هو التحقق من تطبيق النص على الجزئيات، ويقولون في قوله سبحانه: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ} [المائدة:95] ، فالحكم الأساسي في قتل الصيد أن من اصطاد شيئاً من النعم وهو محرم في الحرم، أنه يكلف بمثله، هذا الحكم هو حكم شرعي.
إذاً: تحقيق المثلية هو تحقيق المناط، وقلنا: من قتل غزالاً فالمثلية تكون بشاة، ومن قتل بقر الوحش فتحقيق المثلية في البقرة الأهلية، من قتل نعامة فتحقيق المناط فيها بدنة.
إذاً: تحقيق المناط، يعني: تطبيق الجزئيات على الحكم العام.
أما التنقيح فهو التصفية، مثلاً: إذا جمعت الحب ولم تنقه وجدت فيه -إن كان براً مثلاً- التبن والحصى، فيأتي الرجل المتخصص بهذا ويأخذ الغربال وينقح الحب، بمعنى: أن يطرد الشوائب الغريبة ليبقى الحب صافياً، فكذلك الأحكام الشرعية فيها تنقيح.
أي: تصفية الأوصاف الطردية التي لا اعتبار لها ولا تأثير في الحكم، وإبقاء الحكم للوصف المعتبر المراد، الذي هو علة الحكم.
ويمثل الأصوليون بالأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب صدره، ينتف شعره ويقول: هلكت وأهلكت -كل هذه صفات- فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما الذي أهلكك؟ قال: واقعت أهلي في رمضان، قال: تعتق رقبة، قال: ما أملك إلا رقبتي هذه، قال: فصم شهرين متتابعين، قال: وهل أوقعني في المهلكة إلا الصوم، قال: فأطعم ستين مسكيناً، قال: ليس عندي ما أطعم ... ) يهمنا هنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم رتب عليه الكفارة، عتق صيام إطعام.
إذاً: هذه الكفارة التي رتبها صلى الله عليه وسلم هل رتبها على كونه أعربياً يضرب صدره وينتف شعره، أم على كونه واقع أهله؟ فهنا يأتي العلماء ويقولون: ننقح وننظر: فكونه أعرابياً لا يؤثر في الحكم، فلا فرق بين الأعرابي والحضري، إذاً تعليق الحكم على وصف الأعرابي بأعرابي يلغى؛ لأننا وجدنا الشرع لا يعتبر ذلك في الأحكام، فلا فرق بين أعرابي وحضري وتركي وزنجي.
ووصفه: (يضرب صدره وينتف شعره) هل الكفارة فرضت عليه لكونه كان يضرب صدره وينتف شعره؟ الجواب: لا.
إذاً: هذه أوصاف لاغية.
وبقي من الأوصاف قوله: (واقعت أهلي) .
فأهله لو كانت جارية مملوكة فماذا يكون الحال؟ قالوا: إذاً: الكفارة أنيطت بعد التنقيح بالوقاع، فمن واقع في نهار رمضان زوجة أو مملوكة فعليه كفارة.
والإمام مالك رحمه الله أتى بغربال أنعم من هذا وزاد في التنقيح وقال: يلغى وصف (كونه واقع) ، ويجعل الوصف المؤثر.
هو الفطر عمداً؛ لأنه بوقاعه أفطر عمداً فهو الوصف المناسب للحكم، فقال رحمه الله: من أفطر في رمضان عمداً فعليه كفارة، سواء كان بالوقاع أو كان بغيره؛ لأنه ألغى الوقاع في التنقيحة الأخيرة، وإذا ألغي الوقاع في هذه التنقيحات فلا يبقى إلا انتهاك حرمة رمضان بالفطر، والفطر كما يكون بالوقاع يكون بالأكل والشرب.
ولهذا تجدون أن من فقه مالك في الموطأ أنه أتى بحديث أبي هريرة: (أن رجلاً أفطر في رمضان، فأمره بالكفارة، وساق بعده قصة الأعرابي، فكأنه يقول: الأصل في ذلك الفطر، ثم يأتي بالحديث الآخر الذي عليه الجمهور.
إذاً: هذا يسمى تنقيح المناط.