قال: (وما فاتكم فأتموا) ، وجاءت رواية أخرى بلفظ: (فاقضوا) ، فبعض العلماء يقول: دلالة اللفظين لغة سواء، لأن القضاء قد يكون بمعنى التمام والإنهاء والفراغ، (فإذا قضيت الصلاة) معناه: تمت وانتهت.
يقول الشاعر: قضى كل ذي دين فوفى غريمه وقضاء الدين بمعنى: دفْعُهُ وأداؤه.
وقضى فلان ما عليه، أي: أداه ودفعه.
وقضى فلان بحقي بمعنى: حكم، فتأتي كلمة (قضى) وما تصرف منها لمعان عديدة، ومن معانيها الإتمام، فتقول: فلان قضى الأمر الذي كان قد بدأ به.
وبعض العلماء قال: هذا اصطلاح شرعي، ومعناه: أتموا ما بقي من نقص، واقضوا ما فات عليكم من قبل.
وجميع شراح الحديث يقولون: المشهور والأكثر عند الجمهور لفظ (فأتموا) ، وجاءت بعض الروايات عن أحمد والنسائي -وبعضهم يعزوها لـ مسلم - بلفظ: (فاقضوا) .
فاللفظان صحيحان، ولكن أحد اللفظين أشهر وأكثر من الآخر، والكثرة لها الترجيح، فإذا قلنا باللفظين، فمن أخذ برواية (أتموا) -وهي المشهورة عند الجمهور- له ترتيب في الماضي، ومن أخذ برواية (فاقضوا) له ترتيب آخر يخالف الأول، فما الفرق بين اللفظين؟ إذا جئنا إلى صلاة رباعية جهرية أو ثلاثية ولتكن المغرب، وجاء إنسان قد فاتته الركعة الأولى، وصلى مع الإمام ركعتين وبقي من الثلاث ركعة، فهل الركعة التي سيصليها بعد السلام -التي هي الثالثة- هي الأولى التي فاتته، أم هي الثالثة الباقية عليه آخر صلاته؟! هو صلى مع الإمام ركعتين، وبقي عليه ركعة واحدة، فهل الركعة الواحدة الباقية عليه هي التي فاتته ولم يدركها مع الإمام فيقضيها، أم هي الثالثة التي لم يصلها فيتمها؟ هذا هو التصوير العقلي للواقعة، وهو مطالب بركعة بلا شك، لكن بقي علينا أن نتصور الركعة التي سيقوم لأدائها بعد سلام الإمام، فهل هي الفائتة التي لم يدركها، وهي الأولى بالنسبة للإمام، أم هي الركعة الثالثة الباقية تتمة للثلاث؟ ولما كان الأمر محتملاً فمن أخذ برواية (فأتموا) فالركعة التي سيقوم لأدائها تكون هي الركعة الثالثة الباقية؛ لأنه صلى الركعة الأولى والثانية، وبقي عليه أن يكمل الثالثة، ويكون قد أتم الثالثة بالركعة التي أداها بعد سلام الإمام.
وإن قلنا: هي الماضية التي فاتته فيكون قد صلى ركعتين، وفاتته واحدة، فيقوم لأداء الأولى التي فاتته مع الإمام قضاءً.
وقد يقول قائل: في الحالتين تبقى واحدة وستكمل الثلاث.
قالوا: لا؛ لأن القضاء يختلف عن الأداء، فإذا قلنا يتم ستكون بالنسبة له الركعة الثالثة، والثالثة في المغرب سرية، فحين يقوم بعد الإمام ليأتي بالثالثة يأتي بالقراءة سراً؛ لأنه يتم الثالثة الباقية عليه.
وإذا رجعنا إلى رواية (فاقضوا) ، وسيكون قيامه لصلاة الركعة الأولى التي فاتته، والأولى جهرية فيجهر بالقراءة.
فهذا الذي يترتب على (أتموا) و (اقضوا) .
وإذا فعل الإنسان أحد الأمرين فهل صلاته صحيحة أم باطلة؟ إن أخذ بلفظ (أتموا) وأتى بها سرية فالحمد لله، وإن اعتبرها الماضية وأخذ بلفظ (واقضوا) ، وأتى بها جهرية فلا مانع والحمد لله.
فالصلاة صحيحة على كلتا الروايتين، وكل له مستند.
لكن أيهما أرجح؟ هل هي (أتموا) ؛ لأنها أرجح من جهة قوة الرواية ولأنها مشهورة؟ إذا أخذنا المسألة من جهة النظر فعلى رواية: (اقضوا) يكون قد أوقع تكبيرة الإحرام في الركعة الثانية؛ حيث أدرك مع الإمام الثانية والثالثة، وقد اعتبرنا ما أدرك مع الإمام ثانية وثالثة، وعليه أن يأتي بالأولى قضاءً، فيكون قد أوقع تكبيرة الإحرام في الثانية، ولكن لما كبر تكبيرة الإحرام، أول ما دخل مع الإمام -وتكبيرة الإحرام لا تكون إلا في الأولى- ظهر أن الركعة التي دخل بها مع الإمام هي الأولى في حقه، وإن كانت الثانية أو الثالثة في حق الإمام.
ولو أدرك الإمام في الركعة الأخيرة فسيتم ويقضي ركعتين، فعلى رواية (أتموا) يجهر في واحدة، ويسر في الأخيرة، وهكذا يكون التفريع على الفرق بين (أتموا) ، و (اقضوا) ، والله سبحانه وتعالى أعلم.