وقاسوا على هذا أيضاً إمامة المسجد إذا كان الإمام راتباً؛ لأن الإمام الراتب مولَّى من قبل السلطان، فهو أحق بالإمامة من غيره، حتى قالوا: إذا تأخر الإمام الراتب ينتظرونه ما لم تكن مضرة، فإن كان مكانه قريباً أرسلوا إليه، فإن اعتذر أو لم يوجد وخيف الضرر فعلى الحاضرين أن يقدموا ويختاروا لأنفسهم من يصلي بهم.
وقالوا: لو قدر أنه تأخر لعذر، وأرسلوا إليه فلم يجدوه، واختاروا وقدموا من يصلي بهم، فجاء أثناء الصلاة فمن حقه أن يتقدم للإمامة، وعلى الذي اختاروه للإمامة أن يرجع إلى الصف مؤتماً.
وماذا يفعلون فيما سُبِق به، كأن جاء بعد أن صلوا ركعتين؟ قالوا: يصلي بهم الركعتين الباقيتين، ثم يقوم لاتمام صلاته، والمأمومون يبقون جالسين، فإذا أتى بالركعتين اللتين فاتتاه وأتم لنفسه الصلاة -وهم قد تمت صلاتهم- سلّم وسلموا معه، وإن ترك الإمام الذي اختاروه يتم الصلاة وائتم به فلا مانع في ذلك.
فعدم إمامة الرجل الرجل في سلطانه أولاً وقبل كل شيء فيه احترام للسلطة واحترام للحقوق، وألا يفتئت أحد على أحد في مركز سلطته وسلطانه مهما كان مستواه، ومهما بلغ من أمره.
وكذلك لا يؤم الرجل الرجل في بيته؛ لأنه سلطان بيته إن كان له أن يصلي جماعة في البيت، فقد تكون هناك أعذار له، كأن يكون المسجد بعيداً، أو كان هناك مرضى، وخيف من التفرق، واحتاجوا إلى أن يصلوا في البيت فحينئذٍ الأحق بالإمامة صاحب البيت، ولو كان أيضاً أقل رتبة في الإمامة من بعض الحاضرين؛ لأن حقه مقدم، إلا إذا أذن وقدم فلاناً ليصلي، فقال له: الحق لك لأنك صاحب البيت، فيقول: قد أذنت لك فحينئذٍ يتقدم من هو أولى بمرتبة الإمامة فيصلي؛ لأن صاحب البيت تنازل عن حقه وأذن له، فالصلاة في محلها.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه) .
نأتي إلى ناحية أخرى اجتماعية، وهي: احترام حرمة البيوت، فإذا دخلت بيتاً ورأيت مجلساً خاصاً متميزاً لصاحب البيت سواءٌ أكان كرسياً، أم كان فراشاً، أو دخلت مجلساً عاماً، وتعرف من واقع الحال أن هذا صدر المجلس وهو لصاحب البيت، فلا ينبغي لك أن تجلس في مجلس صاحب البيت إلا بإذنه؛ لأن هذا حقه، والجلوس مكانه افتئات عليه.
فقوله: (تكرمته) هي الموضع الذي يُكرم به صاحب البيت، وهو مكان مميز كما تقدم، فإذا عرفت أن هذا المكان متميز عن بقية المجلس، وعرفت أن هذا لصاحب البيت، سواءٌ أكان صاحب البيت من أرباب المنازل العليا والمراكز العليا، أم كان من عامة الناس فهذا حق له لا يحق لك أن تجلس عليه إلا بإذنه، وكذلك إذا دخل إنسان في غيبة الرجل، وكان من محارم أهله، فلا يحق للمرأة أن تجلس شخصاً ما على فراش رجل إلا بإذنه، فإن كان قد أذن لها فبها وإلا منعته.
وهذا من باب احترام فراش الرجل.
فقد جاء أبو سفيان رضي الله تعالى عنه قبل أن يسلم قبل فتح مكة وبعد صلح الحديبية، وقد نقضت قريش العهد، فجاءت خزاعة تستنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش التي نقضت العهد، فعلم أبو سفيان فسبق وجاء يطلب تمديد الهدنة وتوثيقها، فجاء إلى أبي بكر ليشفع له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله ما أنا بالذي يشفع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء إلى عمر، فقال عمر: أنا أشفع لكم! والله لو لم أجد إلا الذر أقاتلكم به لقاتلتكم.
وجاء إلى علي، قال: والله لا أستطيع أن أشفع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء إلى فاطمة، قالت: أنا امرأة لا أجير على الرجال، قال: مري ابنيك هذين الحسن والحسين، قالت: إنهما غلامان لا يملكان أن يجيرا أحداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل على ابنته أم حبيبة وهي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما دخل عليها كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فراش فطوته، ومنعته أن يجلس عليه، وهو فراش من ليف، قال: والله يا ابنتي لا أعلم، أطويتي هذا الفراش ظناً به عليَّ، أو ظناً بي عليه، يعني: إما لأنه لا يليق بي أنا، أو لأني لا أليق به، قالت: لا، إنه فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس، لا يحق لك أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله لقد أصابك يا ابنتي بعدي شرٌ، ما كنت هكذا، فهي كرمت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيها؛ لأن أباها ما زال كافراً، فلا يليق أن تجلسه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبناءً على ذلك: فإذا كان للرجل فراش خاص، سواءً كان فراش نومه أو غيره، لا ينام أحد في مكانه حتى أولاده، ولا يليق للولد أن ينام في فراش أبيه، ولا يحق للأم أن تأذن للولد في ذلك.
وكذلك البنت لا تنام في فراش أمها، وهكذا لا ينبغي لإنسان دخل بيتاً أن يبيح لنفسه ما لصاحب البيت من مكانة مختصة به: فراش ينام عليه، أو محل يجلس فيه.