قال المصنف رحمه الله: [وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرة مخصفة فصلى فيها، فتتبع إليه رجال، وجاءوا يصلون بصلاته) الحديث، وفيه: (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) متفق عليه] .
هذا الحديث له علاقة بأكثر من موضع، ساقه المؤلف رحمه الله هنا لبيان اقتداء الناس بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في النافلة جماعة.
والحديث يتناول اتخاذ الحجرة، و (احتجر) من التحجير، والتحجير: المنع، ومنه حجر إسماعيل؛ لأنه منع الجزء الذي أخلي من البناء من البيت من أن ينساب في بقية المسجد، ومنه حِجر المرأة الذي يحفظ الطفل، ومنه الحجر على السفيه لحفظ ماله، وأصل المادة -كما يقول علماء فقه اللغة- من الحجر اليابس القوي، فهو يحجر ويمنع نفسه من غيره، ولا يستطيع إنسان أن يدقه برجله لأنه يؤذيه، فهو لحجريته مانع نفسه من أن يعتدي عليه غيره.
والحُجرة تمنع أجزاء الغرفة من الخروج إلى جارها، وتمنع جارها من أن يدخل إليها، فهي تحجر الجزء المملوك.
قال: (احتجر حجرة مخصفة) ، وجاء في بعض الروايات: (احتجز) من الاحتجاز، وهو أخذ جزءٍ من المسجد؛ والخصف هو شيء من الحصير من الخوص، وإلى الآن يسمى عند الناس بالخصفة، والخصف هو نسج الخوص، فقد تكون الخصفة للطعام، وقد تكون الخصفة للفراش والجلوس، وقد تكون هناك خصفة لتحجير الحجرة، إلى غير ذلك.
وأصل هذا: أنه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان صلى العشاء ودخل، ثم قال لـ عائشة رضي الله تعالى عنها: انصبي لنا حصيرك فنصبت حصيرها أمام باب الحجرة في المسجد، فخرج إلى هذه الحجرة أو هذا الحاجز وصلى فيه، فشعر أناس بصلاته، وكانوا موجودين فاقتدوا به وهو لا يدري بهم، وفي اليوم التالي سمع أشخاص بما حدث في الأمس فتجمعوا وصلوا بعدد أكثر من ذي قبل، وفي الليلة الثالثة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء وصلى الناس معه، فدخل بيته، ثم نظر فإذا المسجد مليء بالناس، فقال: (يا عائشة! ما بال الناس؟! قالت: ينتظرون خروجك لتصلي، فيصلون بصلاتك كما صلى غيرهم بالأمس.
فقال: ارفعي عنا حصيرك) ، فانتظروا وطال الانتظار ولم يخرج، فأخذوا الحصباء وحصبوا باب الحجرة، ولم يسمع لهم ولم يخرج إلى أن خرج يصلي صلاة الصبح وقال لهم: (أما بعد: فإنه لم يخف علي مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها) ، وهذا مصداق قوله سبحانه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] .
ثم قال في هذا الحديث: (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ، أي: إذا أردتم الأجر والفضيلة فصلوا في بيوتكم، فخير صلاة المرء في بيته ما عدا الفريضة فهي في المسجد مع الجماعة.
وهنا يأتي مبحث للعلماء فيما يتعلق بعموم: (خير صلاة المرء) ، فـ (صلاة) : نكرة، و (المرء) : مضاف إليه، والنكرة إذا أضيفت إلى معرفة تكون عامة، فصلاة المرء تشمل فريضته ونافلته، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم استثنى منها الفريضة، فيتمحض الأمر على النافلة، فخير صلاة المرء النافلة في بيته، ويستثنى من ذلك عند العلماء السنن الرواتب، كسنة الصبح، وسنة الظهر بعدها وقبلها، والمغرب، فأكثر العلماء يرى أنها تصلى مع الفريضة في المسجد، ويكون الحديث في النوافل المطلقة كقيام الليل، والضحى، مع أن صلاة الضحى جاء فيها أنه حدث أن غزا قوم غزوة ورجعوا سريعاً وغنموا غنائم كثيرة، فقال الناس: ما أسرع ما غزت وأكثر ما غنمت! فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على أقرب منه مغزى، وأكثر غنيمة، وأوشك رجعة؟ مَنْ توضأ ثم غدا إلى المسجد لسبحة الضحى، فهو أقرب مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة) لكن يقولون: النوافل المطلقة كالضحى وقيام الليل هي في البيت أفضل.