شرح حديث: (ما رأيت رسول الله يصلي قط سبحة الضحى)

قال رحمه الله: [وله عنها رضي الله عنها أنها سئلت: (هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: لا، إلا أن يجيء من مغيبه) .

وله عنها رضي الله عنها (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه يصلي قطُّ سبحة الضحى، وإني لأسبحها) ] .

هذا يا إخوان هو موقف العلماء، ومن شرح الله صدورهم، وأنار بصائرهم عندما يواجهون مثل هذه الأحاديث، الحديث الأول صحيح لا شك فيه، والحديث الثاني أيضاً صحيح انفرد به مسلم، وفي البخاري أيضاً تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى إلا إذا قدم من مغيبه) ، يعني: إذا جاء من سفر، هل يوجد تعارض أم ليس هناك تعارض؟ هناك تقول: (كان يصلي أربعاً) ، وهنا: (ما كان يصلي) ، فالنفي منصب على الصورة في غير المنصوص عليها وهي: قدومه من مغيبه.

إذاً: عند قدومه من مغيبه يتفق مع الحديث الأول في إثبات الصلاة، وإذا لم يكن قادماً من مغيبه يختلف مع الأول، ولقائل أن يقول: القادم من مغيبه السنة في حقه أمران: ألا يطرق أهله ليلاً، وأن يسبق إعلامهم بقدومه، فإن لم يتمكن بدأ بالمسجد وأرسل من يعلمهم، وإذا بدأ بالمسجد سيصلي أم سيترك الصلاة؟ سيصلي، فهذا يذكره العلماء من آداب السفر، وبين صلى الله عليه وسلم السبب فقال: (حتى تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة ... ) حفاظاً على كيان الأسرة، وإبعاداً عن مظان السوء، إذا كان الإنسان غائباً عن زوجته فإنها لا تقدّر زوجاً عندها، فلم تتهيأ لاستقباله، وغالباً تكون في ثيابها الرثة، فإذا فاجأها على تلك الحالة ربما رأى ما لا يريد، فانطبعت تلك الصورة في ذهنه، فيحصل هناك تخلخل في الروابط الزوجية؛ لأن الزوجة كما قالت المرأة البدوية لابنتها: لا يرى منك إلا كل مليح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح -وتنصحها بعشر نصائح معروفة- وتعهدي وقت نومه، ووقت سروره، ووقت كذا وكذا إلخ.

فإذا فاجأ المرأة وهي في تلك الحالة ربما لا يعجبه هذا المنظر، وقد تلصق الصورة في الذهن، وربما تقول: الزوج غائب فرصة أذهب أزور أمي، فرصة أزور خالتي جارتي، احتاجت إلى حاجة وزوجها غائب بدلاً من أن تتثاقل إلى إنسان تذهب هي بنفسها لتقضي حاجتها، فيصادف مجيء الزوج وهي غائبة، ويأتي الشيطان يوسوس: انظر من يوم ما ذهبت وهي ما تجلس في البيت، من يوم ما ذهبت وهي خراجة ولاجة، ويجد مجالاً للإفساد، لكن عندما يخبر بأنه قادم تتهيأ.

وحكيت لنا قصة: كان رجل غائباً، وأرسل للزوجة ميعاد العودة، وكانوا كما تعرفون يسافرون على الإبل، فقبل أن يقدم بيومين رأى فيما يرى النائم أن كبشين ينتطحان على فرج امرأته، فاشمأز جداً، ولذا كما يقولون: تفسير المنام إلهام، لأنها موحية، ففزع وذهب إلى طالب علم يسأله فضحك، قال: لماذا تضحك؟ هل الناس يقتتلون عليها؟! قال: لا، قال: إنها علمت بمقدمك فاستعملت المقص فجرحها، إنها تتهيأ! ويحكى أن رجلاً كان غائباً، فقدم وقال: الوقت ليل، وما عندي من أخبرهم، والمسجد الآن ما فيه أحد، فذهب وطرق الباب وكان حديث عهد بعرس، وفي البيت أبوه وأمه وزوجه، ترون هذا الليل الطويل من الذي يكون ساهراً يعد النجوم؟ ومن الذي هو نائم ومستريح؟ ومن اليقظان ومن النائم؟ الزوجة ساهرة كما يقولون: ساهرة الليالي، والأب والأم في حال النوم، وما عندهم شيء يشغلهم، فأول من سمع الطرق الزوجة، فحالاً أسرعت، ففتحت لزوجها واستقبلته، وكانت أمه كلما طلع الفجر تذهب توقظها للصلاة، فذهبت في ذلك اليوم فإذا بالرجل في الفراش وهي لم تعلم أن ابنها قد جاء، فذهبت لزوجها وقالت: أدرك زوجة ولدك ومن معها في فراشه.

طبعاً أمور مثل هذه كما يقال: تغلق الذهن، ما كان منه إلا أن فزع إلى السيف، وجاء وحز رأسه، ثم قامت الزوجة، وجاءت وطرقت على أبيه الباب، ثم قالت: قم وار ولدك، ذبح ولده بيده! فقالوا: هذه نتيجة مخالفة السنة، لو كان أهل البيت علموا بمجيئه لفرحوا وهللوا، ولكن لما فاجأهم ولم يعلم البقية إما أن يقع خطأ، وإما أن يقع سوء في العشرة بين الزوجين.

والآن الحجاج والزوار والعمار، والعمال الذين يسافرون ويرجعون يسر الله لهم الاتصالات، وشخص مسافر وشخص راجع، فليحذر الإنسان أن يفاجئ أهله، يقول: اتركني آتيها على غفلة أنظر ماذا تعمل! هذا ليس من المروءة في شيء! بل هي الدناءة في عينها، أنت لا تدري ما هي الظروف، وإذا كنت شاكاً في أهلك فلا يستحقوا أن يكونوا معك، يجب أن تكون الثقة متبادلة، فإذا لم يتيسر له فليأت إلى المسجد، فسيجد الأولاد في المسجد أو الجيران، وقبل أن يصلي تحية المسجد يكلف أحد المارة: أخبر بيت فلان بأنه جاء وهو الآن في المسجد.

فهنا في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما كان يصلي سبحة الضحى إلا إذا قدم من مغيبه) ، كان صلى الله عليه وسلم في الغزوات يقدِّم من يأتي بالبشرى، كما في غزوة بدر، أرسل ابن رواحة وعبد الله بن زيد على راحلة رسول الله القصواء ببشرى الفتح والنصر ومجيء الأسارى، وكذلك في فتح مكة إلى غير ذلك.

فإذا قدم قلنا: على الإنسان أن يبدأ بالمسجد، وكان بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فإذا بدأ بالمسجد بطبيعة الحال علم أهل بيته، وإن كانوا سمعوا بالبشرى من أول، إذاً: مقدمه من مغيبه هل هذا كان لصلاة الضحى أم كان لدخول المسجد ليبدأ به؟ ابن عمر رضي الله تعالى عنه -كما في رواية موطأ مالك برواية محمد بن الحسن - كان إذا أراد سفراً سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه قبل أن يسافر، وإذا رجع من سفر بدأ بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، وإذا أراد أن يسلم، سيدخل على طول يسلم أم تحية المسجد أولاً؟ معروف في السنة بأن تحية المسجد تصلى أولاً.

فإذاً: إلى هنا حديث عائشة وسط بين الحديث الأول وحديثها الثالث، فهي سئلت: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: لا، ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى قط، يبقى هذا نفي صريح، والأول إثبات صريح، والوسط: (إلا إذا قدم من مغيبه) ، ولكنها مع النفي تقول: (وإني لأسبحها) لم يصلها وأنت تصليها على أساس ماذا؟ أنت ما رأيتيه يصليها وتقولي: (وأنا أسبحها) لا تخالفيه! لا، هنا موقف العلماء: الجمع، هل هناك جمع بين النفي والإثبات أم ترجيح؟ وكما يقول العلماء: إذا تعارض الحديثان فلا طريق إلا الجمع بين الحديثين ما أمكن، أو ترجيح أحدهما على الآخر، فبعضهم سلك طريق الجمع، وقالوا: ما صلى سبحة الضحى قط، وأنا أستحبها، (ما صلى) بمعنى: ما داوم عليها في المسجد كما تفعلون اليوم في ذلك الوقت، وفي بعض الروايات -ويسوقها بكاملها صاحب طرح التثريب- تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (ما صلى، وكان يترك الشيء الذي يحب أن يفعله مخافة أن يكتب على الناس، وكان يطلب التخفيف وإني لأسبحها) ، يعني تقول: ما كان يصلي وهو يحب صلاتها، ويترك ذلك مخافة أن تفرض لدوامه عليها، وأنت تصليها لماذا؟ قالوا: اتخذت طريق الجمع، تقول: ما رأيت، ولكن علمت بأنه يريد أن يصلي، فتخبر عن علمها بعدم رؤيتها، وتخبر عن رغبته بما سمعت من غيرها، هذا نوع من أنواع الجمع! وجمع آخر، قالوا: إن قولها: (ما صلى أبداً) -كما أشار ابن العربي وغيره- أي: ظاهراً وكان يخفيها، وبعضهم يقول: هي امرأة من تسع نسوة أمهات المؤمنين، وقد يكون وقت صلاة الضحى للنبي صلى الله عليه وسلم ليس عند زوجاته، ويكون في المسجد، فإذا جاء من يثبت صلاته كـ أبي هريرة وغيره وأنس فيكون: (من حفظ حجة على من لم يحفظ) ، ويكون هذا إما طريق الجمع بأنها تنكر حالة صلاتهم التي يداومون عليها وفي المسجد، حتى قال البعض: إنها كانت تغلق عليها الباب وتصلي الضحى، إمعاناً في إخفائها.

وعلى كلٍ: مذهب الجمهور تقديم النصوص الواردة في مشروعية صلاة الضحى، وفي بيان فضلها وأجرها والوارد فيها بالأحاديث الصحيحة سواء كان في (كل يوم تطلع فيه الشمس صدقة) أو في حديث البعث الذين بعثهم رسول الله، أو في حديث: من صلى ركعتين أو صلى أربعاً، أو صلى ثمان، أو حديث: (يا ابن آدم! اكفني ركعتين في أول النهار أكفك آخره) أو في حديث أبي هريرة: (أوصاني خليلي ... ) كل هذه نصوص عند الجمهور تثبت مشروعية صلاة الضحى وتبين فضلها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015