ونأتي إلى سورة الفلق، ثم نأتي إلى سورة الناس، ثم نأتي إليهما معاً، تجد السورة الأولى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] ، وقد عارض بعض المتفلسفة -ليس الفلاسفة- على إيراد كلمة: (قل) ، وقال: لماذا لا يقرأ الإنسان: (أعوذ برب الفلق من شر ما خلق) ؟ فكلمة (قل) مقول القول، وتحصيل حاصل، ولكن لا، {قُلْ أَعُوذُ} [الفلق:1] ليعلم السامع والقارئ بأن هذا المقول يجب أن يقوله بأمر الله سبحانه الذي قال له: (قل) ، أما إذا بدأ وقال: (أعوذ برب الفلق) قد يكون من عنده هو، قد تكون استعاذة شخصية، ولكن عندما يضمم: (قل) أي: أنك أمرت وكلفت من الله سبحانه وتعالى أن تقول، ولذا الذين نادوا بحذفها ما فقهوا كلام الله، وأن هذا تكليف من المولى لعبده.
{قُلْ أَعُوذُ} [الفلق:1] بمعنى: ألوذ وألجأ وأحتمي، {بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] الرب الخالق المدبر، وكلمة (رب) لها في اللغة نحو من عشرين معنى، وصفة الربوبية نجدها في أول سطر من كتاب الله، بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ، ونجدها هنا في آخر المصحف، وفي آخر سورة من كتاب الله، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] ، فنجد هنا: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] ، الفلق: كل ما انفلق عن غيره، فإذا جئت إلى السماء وأبراجها وما انفلقت عنه من كواكب وشموس وأقمار إلى غير ذلك، إذا جئت إلى البحار وما انفلقت عنه من جواهر وأصداف وكنوز وحيوانات وغير ذلك، وإذا جئت إلى الأرحام وما انفلقت عنه من نتاج في حيوان وطير وإنسان، وإذا جئت إلى الأرض وما انفلقت عنه من أنواع النبات والأشجار وما خلق الله فيها لوجدت الشيء العظيم، وكل الكائنات تندرج تحت هذه الكلمة {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] .
كيف فلقها؟ كيف أنشأها؟ تسبح في عالم بعيد جداً.
{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2] ؛ لأن كل مخلوق فرد من أفراد الفلق الذي انفلق عن قدرة الله سبحانه، فالشر الذي سيأتي من المخلوقات هي أفراد ما خلق، والذي فلقه هو الذي يدرأ عنك شره، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا} [الفلق:1-2] ، (ما) من الأسماء الموصولة التي تدل على العموم، فمدلولها عام، {مَا خَلَقَ} [الفلق:2] حتى قال ابن عباس: المعصية مما خلق الله، فإذا استعذت بالله من شر ما خلق استعذت بالله من كل شر تخشاه حساً كان أو معنى.
إذاً: دخلت في حماية الله من شرور خلق الله، التي انفلقت عن قدرة الله، ثم يأتي تفصيل بعد إجمال: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:3] ، قالوا: القمر في آخر الشهر؛ لأن ذلك الوقت من الشهر هو وقت عمل المفسدين من سحرة وغيرهم.
{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] ، وهم السحرة يعقدون العقد وينفثون فيها بسمومهم، قال: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] ، ولم يقل: إذا نفثن في عقدهن، ولكن في العقد: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ} [الفلق:5] ليس على إطلاقه، بل {إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5] إن وقع منه الحسد، ومن هنا جاءت السورة الكريمة بالاستعاذة بصفة واحدة لله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] هذه الصفة المستعاذ بها، من أي شيء؟ عموم ما خلق، (غاسق إذا وقب، نفاثات في العقد، حاسد إذا حسد) المستعاذ به صفة واحدة من صفات الرب سبحانه، والمستعاذ منه أربع شرور على الإجمال ثم التفصيل، وقبل ذلك: التفريق بين النفاثات على الإطلاق، وبين الحاسد بشرط: إذا حسد؛ لأن النفاثات في العقد لا ينفثن إلا عملياً عند السحر، وقبل أن يتناولن الخيط، ويعقدن العقد وينفثن فيها؛ لسن بساحرات، فلا يتحقق ولا يوجد سحرهن إلا بالعقد والنفث في الحال، إذاً: عندما يعقدن، وينفثن في تلك العقد هن ساحرات، وقبل ذلك لم يكن ساحرات، أما الحاسد فهو حاسد ولو لم يتوجه إلى الإنسان بالحسد، فيستعاذ من شره إذا توجه إلى المحسود، والحسد يوجد عند الإنسان الذي ابتلي بهذا الداء عافانا الله وإياكم، لكن شر حسده لا يظهر ولا يخرج ولا يقع تأثيره إلا إذا توجه بعينه للمحسود.
وكيف يقع الحسد؟ وكيف يتأثر المعيون من عين العائن؟ ذكرنا في الموطأ قضية سهل بن حنيف، لما رآه أحد الصحابة وقد تجرد واغتسل، فقال: ما رأيت مثل جلدك اليوم ولا كالعذراء في خدرها؛ فسقط في الحال، فذهبوا إلى رسول الله، وقالوا: يا رسول الله! إن كان لك حاجة في سهل فلا يستطيع أن يذهب معك، كانوا في سفرة ما بين المدينة ومكة، قال: (وما ذاك؟ قالوا: خلع لباسه، ونظر إليه فلان فقال: كذا وكذا، فتغيظ صلى الله عليه وسلم وقال: علام يقتل بعضكم أخاه؟ هلا بركت إذا وجدت ما يعجبك، من رأى ما يعجبه فليبرك، ثم أمر أن يغسل له) وهذه قضية طويلة.
وإلى الآن يجمع المسلمون على وقوع أثر الحاسد في المحسود كسهم صائد، ولكن كيف ينفذ هذا السهم؟ ومن أين ينطلق؟ وكيف يؤثر؟! عجز العالم إلى اليوم، لا الأطباء القدامى ولا الأطباء الجدد، إنما كل ما قالوه: إن القلب يتغير، وإن العين تنظر، فيخرج إشعاع من القلب إلى العين ثم تخرج إلى المعين، فيتأثر بذلك، ويستدلون بأشياء عديدة، ولكن حقيقة ذلك الله تعالى أعلم بها.