قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ) رواه مسلم] .
هذا من فقه المؤلف رحمه الله حيث أورد لنا قول عائشة الذي يمكن أن يشكك في عدم قراءة الفاتحة، فيأتينا بعده مباشرة بأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يقرأ الفاتحة فقط، بل يقرأ الفاتحة ومعها تارة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وتارة: بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، فإذا كان يقرأ بهاتين السورتين فهل يترك الفاتحة ويقرأ بهاتين السورتين أم قطعاً نقول: إنه يقرأ بفاتحة الكتاب ثم يقرأ بهاتين السورتين؟ نقول: قطعاً أنه يقرأ في كل ركعة الفاتحة وإحدى هاتين السورتين.
إذاً: رداً لما عساه أن يقع في الذهن من قول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، نقول: نعم قد قرأ ولم يقتصر على الفاتحة فقط، بل قرأ معها بسورتين قصيرتين، في كل ركعة سورة، وهنا يرد السؤال: السنة أن تقرأ في كل يوم في ركعتي الفجر مع الفاتحة في الأولى (قل يا أيها الكافرون) ، ومع الفاتحة في الركعة الثانية (قل هو الله أحد) ، وهذا له نظير، ففي ركعتي الطواف السنة أن تقرأ بسورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، وكذلك في الوتر تقرأ في الأولى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] ، وفي الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] .
إذاً جاءت سورة الإخلاص مع سورة الكافرون في الوتر في آخر الليل، وجاءت أيضاً مع سورة الإخلاص في ركعتي الفجر في أول النهار، وجاءت سورة الكافرون مع سورة الإخلاص عقب الطواف، فمن مجموع هذه الحالات يرى البعض -وهو رأي سديد-بأن حياة الأمة وصلب الإسلام وصميمه إنما هو بتوحيد الله، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] لكي يظل الإنسان على طريق مستقيم من القيام بعبادة الله وحده، والإقرار لله بالوحدانية، كان يأتيه هذا التذكير يفتتح يومه صباحاً بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:1-2] ، أي: تلك الأصنام التي تعبدونها أنا أرفضها، {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ} [الكافرون:4] أي: عبادتكم التي تؤدونها أنا لا أعبدها: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3] ، ولا أنتم بمصلين ولا صائمين كما أصلي وأصوم: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] ، انفصال وتميز، تميزت الأمة عن غيرها في منهجها وعلاقتها بربها، فإذا جاءت الركعة الثانية جاءت سورة الإخلاص، فالسورة الأولى جاءت بإفراد الله بالعبادة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] والسورة الثانية: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد:19] تفرد الله سبحانه بالوحدانية في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله، فتصبح وأنت تعلن هذا الأمر: وهو إفراد الله بالعبادة، وتوحيده سبحانه في أسمائه وصفاته، مؤمناً وافياً، تعلنها في الصباح وتبني حياتك اليومية عليها، وهكذا في آخر اليوم عندما تسلم نفسك للنوم، وتنتهي من جميع أعمالك، والوتر أوله من بعد العشاء إلى طلوع الفجر، فإذا أوترت بعد العشاء وأنهيت النهار بهذا المعنى، وبه استقبلت الليل، وكذلك هناك أنهيت الليل، وبه استقبلت النهار فتكون موحداً بين ليلك ونهارك: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] وهذا كما قالوا في المناسبة في فجر يوم الجمعة: الغالب أن يقرأ فيها بسورتي السجدة والإنسان، ويقول ابن تيمية رحمه الله: شرعت قراءة هاتين السورتين في هذا اليوم؛ لأن يوم الجمعة هو اليوم الذي فيه تقوم الساعة، وجاء في الموطأ في ذكر فضائل يوم الجمعة في آخره قال: وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة بسمعها يوم الجمعة بعد الفجر خوفاً من قيام الساعة، فالحيوانات تصيخ بسمعها بعد الفجر، وتتذكر هذا اليوم، ونحن أولى؛ لأن الحيوانات والجمادات والسموات والأرض عرضت عليهن الأمانة فأبينها، وحملها الإنسان، فهو أولى من أن يشفق من الساعة، وخاصة من اليوم الذي جاء التحديد من أنها ستأتي فيه وهو يوم الجمعة.
إذاً: قراءة السجدة و (هل أتى على الإنسان) مناسبتان لصلاة الصبح في يوم الجمعة؛ ليتذكر الإنسان بنفسه أن أول خلقه كان من تراب ثم نطفة ثم.
إلخ وقصة السجود وعدم السجود، وليتذكر أنه لم يكن شيئاً مذكوراً، فيهما قصة حياة الإنسان ومآله يوم القيامة، ليتأهب ولا ينسى مبدأه، ولا يغفل عن معاده، وكذلك: (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) تناسبان صباح الإنسان ومساءه.