جاءت في هذا الباب نصوص عديدة، منها أنه لما حرمت الخمر جاء رجل كان من عادته في أوائل أمره أن يأتي بخمر يهديها للنبي صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم ما شربها أبداً، ولكن كان يسمح بها لغيره، فجاء وقد حرمت الخمر، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أما علمت أن الله قد حرم الخمر؟ قال: ما علمت.
ثم قال: يا رسول الله! أبيعها؟ قال: إن الذي حرم شربها حرم بيعها.
قال: أهديها لليهود؟ قال: إن الذي حرم شربها حرم مهاداتها على اليهود قال: ماذا أفعل بها؟ قال: سنها -أو: شنها- في التراب، ففتح فوهي المزادتين، فسالت الخمر في الطريق) .
وبعد أن ثبت تحريم الخمر جاء أبو طلحة، وكانت عنده خمر لأيتام في أوانٍ، وكان أنس يسقي جماعة، وأنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه أم سليم، وهي زوجة أبي طلحة، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم جاءت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! هذا أنس يخدمك.
وكان أبوه سافر إلى الحبشة وتوفي هناك.
ثم جاء أبو طلحة وخطب أم سليم -وأم سليم كانت من فضليات النساء، فقالت: يا أبا طلحة! والله مثلك لا يرد، ولكنك رجل مشرك، وأنا امرأة مسلمة.
فقال: ماذا تريدين من حمراء وصفراء -يريد الذهب والفضة-، أو بيضاء وصفراء؟ قالت: لا أريد بيضاء ولا صفراء، أريد منك أن تسلم، فقال: أفكر في أمري، ثم جاء من غده فقال: وما هي الطريق؟ قالت: تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه.
ويقولون: لما قدم عليهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاكم أبو طلحة ونور الإسلام بين عينيه) فلما أسلم ورجع إليها تزوجته، وكانوا يقولون: ما وجدنا امرأة أسعد صداقاً من أم سليم، كان صداقها الإسلام، وهذه رواية في زواج أبي طلحة من أم سليم أم أنس.
والرواية الأخرى فيها أن أبا طلحة أسلم قبل ذلك، وقبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد حضر بيعة العقبة، ومن المؤرخين من يقول: كان نقيباً على قومه، ومنهم من يقول: كان أحد أفراد السبعين فقط.
فـ أنس ولد زوجة أبي طلحة - كان عنده جماعة يسقيهم الخمر، فسمعوا منادياً ينادي: إن الله ورسوله قد حرما الخمر، فقال أبو طلحة لـ أنس: ما هذا؟ أخرج وتبين الأمر، فرجع إليهم فقال: ينادي بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن الله حرم الخمر، فكفوا عن الشراب حالاً، ثم ذهب أبو طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! عندي خمر لأيتام -وكان يجوز استعمالها، وكان يجوز الإتجار فيها- أفنتخذها خلاً؟ قال: لا) ، وكلنا يعلم حرمة مال اليتيم على الوصي عليه.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتكسير الأواني، وأمر مناديه أن ينادي بذلك في أزقة المدينة، وأخذ مدية، فما مر بزق فيه خمر إلا نشقه، حتى قال الراوي: فسالت الخمر في أزقة المدينة.
وهنا يرى العلماء عدم جواز تخليل الخمر بالصناعة، وأن نجاستها تنفذ في مسام الأواني الفخار، وقالوا: لو كانت الاستفادة ممكنة عن طريق تخليلها لسمح رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخليل خمر اليتامى، حتى لا تضيع أموالهم، ولكنه أمر بإراقتها، وزيادةً على ذلك أمر بتكسير الأواني التي كانت فيها.
فالخمر نجسة ومحرمة فأريقت، لكن لماذا كُسرت الأواني مع أن الأواني أموال ولها قيمة؟ كما أنه يمكن أن تستعمل في حفظ الزيوت، ويمكن أن تستعمل في حفظ المياه، ويمكن أن تستعمل في حفظ الدقيق، ويمكن أن تستعمل في اليابسات ونحو ذلك! قالوا: لأن الخمر تتسرب في مسام الفخار، والفخار له مسام، بدليل أنك إذا جئت بالإناء من الفخار وملأته فإنه يقطر الماء، فكانوا يستعملونه كالفلتر المرشح للماء بأخذ الماء المتقطر من جوانبه؛ لأنه يكون أقل ملاحه مما لو شرب مباشرةً، فلما كانت للفخار مسام يدخل فيها الخمر ثم يمكن أن يطهر؛ لأنها لو غسلت سوف تطهر من الخارج، والغسل لا ينفذ إلى مسامها ويستخرج منها بقايا الخمر لتطهر فأمر بتكسيرها.