إن المتأمل في السنة يجد عدة قضايا كان الرسول صلى الله عليه وسلم بعيداً عنها كل البعد، ولكنها فرضت عليه فرضاً، وألزم بها ليبين للأمة بنص الكتاب المبين الحكم فيها، وذلك مثل قصة زينب وزيد، ماذا كان موقفه منها؟ قال تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37] ، ليس هو الذي ذهب وتزوجها، وإنما فرض عليه زواجها، لماذا؟ هل لأنها ابنة عمته؟ أم أنه كما يقول أولئك المغفلون أو أولئك المتهمون: كان يراها ويريدها؟ أليس كانت ابنت عمته بكراً وهو قادر على ألا يزوجها زيداً، وأن يمنعه منها؟ بلى والله! ومن هو زيد؟ زيد خطف من الطريق وبيع فاشتراه شخص وأهداه لـ خديجة رضي الله تعالى عنها، فوهبته لرسول الله، فجاء أبوه وعمه يتقصون الأخبار عنه حتى عرفوا أنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: (يا محمد! جئناك في فداء ابننا زيد، فقد علمنا أنه عندك، وأنت تأمر بصلة الأرحام، قال: أو غير ذلك؟ قالوا: وما هو؟ قال: أناديه وأعرض عليه، فإن اختاركما فلا أريد منكما فداء، وإن اختارني فما أنا بمفاد من يختارني على أهله، قالوا: والله! لقد أنصفت، فدعا زيداً فقال: هل تعرفهما؟ قال: نعم هذا أبي، وهذا عمي، قال: إنهما أتيا لفدائك، وقد أخبرتهما: إن اخترتهما فاذهب معهما بلا فداء، وإن اخترتني فما أنا بمفاد من يختارني، فقال: والله! لا أختار عليك أحداً أبداً -وهذا قبل البعثة وقبل الرسالة، من أجل تلك الأخلاق الفاضلة التي نشأه المولى سبحانه وتعالى عليها- فقال له أبوه: ويحك يا زيد! أتختار الرق والعبودبة على الحرية؟ قال: ومالي لا أختاره؟ والله! منذ صحبته ما قال لي على شيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعله؟) فهل معنى هذا أن فعل الأمر ليس مهماً بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم؟ لا والله! ولكنه كان يوجهه بمكارم الأخلاق وباللطافة والإحسان والمروءة، فعرفوا مكانه وقالوا: إذن نحن نطمئن على ولدنا، وانصرفوا.
فلما وجد منه صلى الله عليه وسلم هذا الوفاء، أخذ بيده وطاف به حول الكعبة وقال: (يا معشر قريش! زيد هذا ابني، يرثني وأرثه) ، حتى جاء الإسلام وأنزل الله قوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب:40] الآية، وقال تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5] .
وكان صلى الله عليه وسلم قد زوج زيداً بـ زينب، وكان يدعى ابن محمد حتى جاء القرآن ونسخ التبني، وكذلك نسخ تحريم زوجة الابن بالتبني، وبقي تحريم زوجة الابن من النسب، وهذه القضية لو أنها وقعت مع أبي بكر أو مع عثمان أو مع عمر أو مع أي أحد من الصحابة لم تهدم هذه العادة، ولم تقض على ما تعارفوا عليه طيلة دهرهم، ولكن لما كانت في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم هدمت تلك العادة وانتهت، وكان صلى الله عليه وسلم يحاول أن يدفع ذلك عن نفسه، قال تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ} [الأحزاب:37] ، وهذا عتاب كبير، لماذا زوجه الله تعالى؟ قال تعالى: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب:37] يعني: أن هذا الزواج للتشريع، فرض عليه لكي يأتي التشريع الجديد في شخصيته صلى الله عليه وسلم.
المهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متطلعاً إليها ولم يكن راغباً في زواجها، ولكن هذا الزواج فرض عليه من أجل التشريع، ولذلك كانت تقول لنساء رسول الله: (زوجكن آباؤكن، وأنا زوجني الله من فوق سبع سموات) ، وهذا والله هو العقل.
إذاً: هذا العمل أجري على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك الصلاة أجريت على رسول الله، فلا مانع أن ينسّى، لكن لأي شيء؟ ليبين للناس.