قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين؛ فتلك تسع وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غفرت له خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر) رواه مسلم، وفي رواية أخرى: (أن التكبير أربع وثلاثون) .
] .
تقدم هناك قراءة آية الكرسي ومعها: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، وهنا التسبيح والتحميد والتكبير دبر كل صلاة؛ فلا مانع أن يكون كلا الأمرين بعد الصلاة، والأنسب أن يُقدم آية الكرسي و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ؛ لأنها نص من القرآن، وجاء في حقهما: (لا يمنعه من دخول الجنة إلا الموت) ، وهنا كذلك: كان يتعوذ بأربع كلمات دبر كل صلاة) ، فسواء قدّم هذا أو أخر هذا، المهم أن يكون الجميع بعد الصلاة لا في حالة الصلاة ولا بعد الانصراف عن مكانه.
هذا الذكر المبارك: (من قال دبر كل صلاة: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر) ، وإذا وجدت متعددات في نسق واحد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أن بينها مناسبة.
(سبحان الله) ، ما معنى التسبيح؟ تقول كتب فقه اللغة: أصل المادة السين والباء والحاء، سَبَحَ، والألف والنون زائدتان كما هما في عثمان، وأصل مادة سَبَحَ إنما هي حركة الإنسان في الماء، وحركة الإنسان في الماء لأي شيء؟ إذا ألقينا بإنسان في نهر فلكي لا يغرق ماذا يفعل؟ يسبح، ولو لم يستطع فإنه يحاول السباحة، فقالوا: كذلك العبد حينما يقول: سبحان الله، كأنه يُسبح الله ويبعد عن ذاته سبحانه كل ما لا يليق بجلاله، أو هو يسبح في بحر المعرفة وتقديس المولى عن كل نقص؛ ليسلم من مهلكة الشرك والنقص في حق الله، وعلى كلا الأمرين؛ فإن سبحان الله، معناها: أُنزه الله وأُقدس الله من كل عيب أو نقص، فبقولك: سبحان لله نفيت عن ذات المولى سبحانه كل ما يمكن أن يكون فيه نقص لله، وبعد التنزيه تأتيه بالحمد والثناء، وهو المحمود لكمال ذاته لا لشيء يصدر منه لك أو لغيرك، ولذا يقولون: اللغة فيها الحمد والمدح والثناء، والكل ذكر للمحمود والممدوح والمثني عليه بالخير، ولكن الثناء إنما يكون لمن أصابك منه خير، والمدح يكون لإنسان نبغ وفاق وتفوق على أقرانه في مجاله، فتمتدح مخترعاً ولو كان غير مسلم؛ لأنه اخترع ما ينفع الإنسانية، وتمتدح طبيباً ماهراً أجرى عملية دقيقة خطيرة، وتمتدح مهندساً قدم شيئاً نادراً ممتازاً في مهنته، ولكن من أسدى إليك نعمة تثني عليه، وتشكره على ذلك، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله؛ فإذا طبيب عالجك تشكره على معالجته لك، أما طبيب حاذق فتمدحه وتثني عليه لحذقه ونجاحه في عمله، وأما الحمد فلا يكون مقابل نعمة أسداها إليك، ولا بسبب فعل نادر تفوق به على غيره، وإنما يكون لكمال ذات المحمود في ذاته، ولو لم يصلك منه شيء أو يصدر منه لغيره شيء، فهو في ذاته محمود، وهذا لا ولن يكون إلا لله؛ لأن ما عداه فهو ناقص، وما عداه يثنى عليه أو يمتدح لجزئية في حياته، وقد يكون فيه عيوب من جهات أخرى عديدة.
إذاً: بالجمع بين (سبحان والحمد لله) جمعت أطراف التوحيد للمولى، وكما يقول الأصوليون: درء المفسدة مقدم، لذا بدأت بتنزيه الله عن كل نقص أو عيب، ثم جئت بالحمد والثناء عليه؛ فتكون جمعت للمولى سبحانه كل أنواع التوحيد من نفي ما لا يليق بجلاله، وإثبات جميع المحامد له، وبهذا تأتي بعد ذلك بـ: (الله أكبر) ، ومن اجتمعت له كل معاني التنزيه والمحامد فلا أكبر منه، فهو أكبر بالأمرين.
فإذا جئت بهذه الأعداد المنصوص عليها -تسعة وتسعين- وهي وتر، وختمت المائة بالذكر الجامع: لا إله إلا الله- كنت ممن جمع التنزيه والتحميد والكبرياء والكمال لله وحده، وبهذا تكون ألممت بكل ما يتعلق بتوحيد المولى سبحانه وتعالى.
وهنا نجد المحققين من العلماء يقولون: ائت بهذا العدد ثلاثاً وثلاثين، ولو جئت بأربعة وثلاثين من كل واحدة أو بخمسة وثلاثين قال لك: لا؛ لأن الدعاء توقيفي، والذكر المحسوب بالعدد توقيفي ولا يحق لك أن تزيد فيه، كما لا يحق لك أن تنقص منه، فقالوا: التركيب العددي في الذكر الوارد كالتركيب المادي في الدواء، الصيدلي يكتب له الطبيب: ركب الدواء من المواد الفلانية الثلاثة: من الأول عشرة جرام، ومن الثاني ثمانية، والثالث خمسين.
لو زاد جراماً أو أنقص أفسد الدواء، وهكذا يقول لك الطبيب: ملعقة في الصباح، وملعقة في الظهر، وملعقة في المساء.
لو أخذت ملعقة في الصبح وملعقة في المساء نقصت فعالية الدواء، ولو أخذت ملعقتين ملعقتين زاد الدواء على مفعولية الداء وقد يضرك، وعلى هذا يقول ابن دقيق العيد: هذا الذكر الوارد بالعدد المعين يجب أن تلتزم به ليؤدي النتيجة التي رتبها عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي غير هذا التركيب لك أن تقول: سبحان الله ألف مرة ألفين، لا أحد يمنعك تقول: الحمد لله، مائة ألف مرة، لا أحد يمنعك، الله أكبر، تقولها طول عمرك لا أحد يمنعك من ذلك كله، لكن لا تنتظر النتيجة التي رتبها النبي صلى الله عليه وسلم على هذا العدد المعين، إن كنت تريد النتيجة المرتبة على عدد معين فيجب أن تلتزم بهذا العدد، ولا تزيد فيه ولا تنقص منه، والله تعالى أعلم.
(له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) .
تقدم نظير هذه الجملة.
(غُفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر) .
النتيجة المترتبة على هذا الذكر ما هي؟ (غفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر) ، زبد البحر يعرفه الذين يعيشون على السواحل، حينما يضطرب الموج تجده يأتي مع اضطرابه إلى الساحل بزبد لا يعلم قدره إلا الله، فلو كانت ذنوب الإنسان كزبد البحر -وهي من الرغاوي التي تكون على وجه الماء من تفاعله- لغُفرت بهذا الذكر المركب بهذا العدد المعين، ونظير هذا الحديث: لما جاء فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، وبالدرجات في الجنة، قال: وما ذاك؟ قال: يُصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضل أموالهم، ولا مال عندنا) يعني تساوينا في العبادات البدنية، وهم زادوا عنا في العبادات المالية، قال: (ألا أدلكم على ما إن فعلتموه تزيدون عليهم، ولا يكن مثلكم إلا من صنع صنيعكم؟ قالوا: بلى، قال: تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتختمون المائة بلا إله إلا الله ... ) إلى آخره، فذهبوا حين قال لهم هذا، وهذه عملة جديدة، وسيحصلون منها على أجر كما يحصل الأغنياء على أجور من أموالهم، فأصبحوا يقولون مثلهم، يعني رجعنا وتساوينا ولا زالوا هم مفضلون ببقايا أموالهم.
انظروا الحكمة النبوية اللطيفة هذه، كان ممكن يعطيهم ذكر طيب ولكن إلى متى، أليس كل ما يعطيهم سيصل إلى الآخرين ويقولونه، فحسمها، وقال: (ذلك فضل الله) ، كونه أعطاهم مالاً زائداً فهذا فضل منه، وكونه يعطيهم ثواباً على الذكر كما يعطيكم هذا فضل الله، وما دام أنه فضل الله فلا أحد له دخل: (لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت) .
ولكن هل يقصر الأمر على الفقراء لقلة مالهم؟ لا والله، إنهم ليحصلون على الأجر بنيتهم في رغبة الإنفاق، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة: رجل أعطاه الله مالاً وأعطاه علماً؛ فهو يعرف حق الله في المال، ويؤدي حق الله فيه فهو في أعلى عليين) أعطاه الله مالاً وعلماً، ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا؛ فهو في أعلى عليين: (ورجل أعطاه الله علماً ولم يعطه مالاً فقال: لو أن لي مالاً لفعلت فيه كما يفعل فلان، فهو معه سواء) معه في المرتبة بالنية، (ورجل أعطاه الله مالاً ولم يعطه علماً؛ فلا يعرف حق الله فيه؛ فهو في أسفل السافلين) لأنه ضيع حق الله في المال، ولم يتعلم حق الله، ولم يؤد حق الله، (ورجل لم يعطه الله مالاً ولا علماً، فقال: لو كان بيدي مال لفعلت فيه كما يفعل فلان؛ فهو معه سواء) فالثاني أدرك الأول بالنية، والرابع أدرك الثالث بالنية، والحديث العام: (إنما الأعمال بالنيات) .
إذاً: هؤلاء رغبوا في أن يكون لديهم المال وأن يتصدقوا كما يتصدق الآخرون، ولكن لم يعطهم الله؛ فهم على نياتهم يؤجرون بفضل الله.
وفي رواية أخرى: (أن التكبير أربع وثلاثون) .
تكون التكبيرة أربع وثلاثين لتكمل المائة، أو أن يختم المائة بلا إله إلا الله، وهذه أولى؛ لأنها ذكر زائد، وهي تتناسب مع ما تقدم من التنزيه والتحميد والتكبير؛ فتكون لا إله إلا الله أجمل وأشمل، وزيادة في المعنى وأرجح في الرواية، والله تعالى أعلم.
أيضاً يا إخوان: جاء أن هذا الذكر يقوله الإنسان مجموعاً أو مفرقاً، في بعض الروايات: (سبحان الله والحمد الله والله أكبر ثلاثاً وثلاثين) ، يعني: يأتي بالألفاظ الثلاثة مجموعة في جملة، أو أن يأتي بكل لفظ على حدة ثلاثاً وثلاثين، والثاني: هي الرواية الراجحة، والله سبحانه وتعالى أعلم.