بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: من الغرائب ما يذكره بعض المتوسعين في السيرة في غزوة بدر: أن ابن عمر كان مر ببدر بعد الوقعة، فرأى رجلاً يخرج من الحفرة ويقول: يا عبد الله! وخلفه رجل يضربه بسوط ويجره بسلسلة، ويقول: يا عبد الله! لا تسقه إنه كافر، فيقول ابن عمر: فوالله لا أدري أعرفني أني عبد الله بن عمر أو ناداني بنداء العرب، يا عبد الله! وكل الناس عبيد الله، فذكر ابن عمر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أنت رأيته؟ قال: نعم، أنت سمعته؟ قال: نعم، قال: ذلك أبو جهل يعذب بذلك إلى يوم القيامة) ، وأخبار القبر من أراد أن يتوسع فيها فليراجع فيها كتاب ابن أبي الدنيا، وكتاب الروح لـ ابن القيم، وأحوال أهل القبور فيها أشياء مسطرة كثيرة جداً، منها ما صح سنداً، وما ضعف فيه السند، أشياء فوق العقل، وليس لنا إلا أن نسلم لكل ما صح سنده، وقد جاءت النصوص الصريحة عنه صلى الله عليه وسلم في أن القبر أحد أمرين: إما روضة من رياض الجنة، وإما -عياذاً بالله- حفرة من حفر النار، وفي الحديث: (إذا وضع المؤمن، جاءه الملكان وسألاه -في باب طويل جداً- فإن كان مؤمناً وأجاب، فتحت له فتحة من النار، ويقال: ذاك مقعدك لو لم تكن آمنت، ثم يقفل عنه ويفتح له باب من الجنة، ويقال: ذاك مقعدك يوم القيامة، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة) ، وإن كان العكس بالعكس.
وما أنكر عذاب القبر إلا بعض من يُلغي الغيبيات غير معقولة المعنى، وهذا خطأ، وبعضهم ينسب ذلك إلى عموم المعتزلة، وبعضهم يقول: إنه رأي للبعض منهم وليس للجميع، ومما يوردون من الشبه: كيف يكون القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار والقبور متقاربة متلاصقة؟ وفي بعض الروايات: (يمد له مد البصر) ، كيف يمد مد البصر والمقبرة مائة متر في مائة متر؟ واحد فقط لو مد له مد البصر أخذ المقبرة كلها، ثم أين يذهب البقية؟ ولكن ما دام الأمر غيباً والله لا نستطيع أن نقول: كيف يمد؟ ويستحي الإنسان الآن أن يقول هذا، نحن في الوقت الحاضر ربما نجلس أمام الشاشة، ونجد منظر بواخر في المحيطات، وطائرات تطير، وغواصات في باطن الماء، ونجد ونجد والشاشة كلها أربعة وعشرون بوصة، فهل نقول: كيف جاءت هذه؟ لا والله ما نقول، وهذا تقريب للواقع، وقد توجد شاشة ثانية بجوارها فيها خلاف ذلك، ونحن لسنا في حاجة إلى هذا كله، ولكن نقول: يجب على المسلم إذا سمع خبراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: سمعاً وطاعة، كيف نؤمن بالجنة والنار؟ {جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133] ، الروم تساءلوا: إذا كان عرضها السماء والأرض فأين تكون النار؟ فجاءهم الجواب.
إذاً: كل ما كان غيباً لا يمكن للعقل أن يدركه؛ لأنه إذا أدركه لم يعد غيباً، وكل المغيبات فوق قانون التصور العقلي، وهنا فرق بين المسلم وغير المسلم، فالمسلم بإيمانه ويقينه وتصديقه بالوحي عن الله يقول: سمعاً وطاعة، وكما نقل عن كعب الأحبار عندما سأله عمر: ما هذا العلم الذي تعرفون به محمداً أكثر من أبنائكم؟ كما قال الله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] ، قال: والله! إن لمعرفتي بمحمد أشد من معرفتي بولدي، قال: كيف ذلك؟ قال: لأن نعت محمد وتعريفه جاء بالوحي، والوحي صادق، أما ولدي فإن النسوة يُحدثن -انظر إلى أي مدى- فيخطئن، وأنا لا أحرس امرأتي وآخذها معي، فهي تغيب عني ولا أدري ما يكون، ولكن الوحي لا يعتريه شك، فأنا أعرف بمحمد لصفاته عندنا بالوحي، وأشد اطمئناناً إليه من اطمئنان نسبة ولدي إليّ.
إذاً: نحن نستيعذ بالله من عذاب القبر، وأشرنا لما قاله والدنا الشيخ الأمين: إن العلماء يقولون: عذاب القبر ثابت بنص القرآن، كما جاء في حق آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا} [غافر:46] ، وهذا العرض غدواً وعشياً قبل أن تقوم الساعة، ولا يكون ذلك في الحياة وهم أحياء، إذاً: لم يبق إلا فترة البرزخ، ونسأل الله جميعاً أن يعيذنا من جهنم ومن عذاب القبر، ونسأل الله السلامة والعافية، والعالم مهما اجتمع وأوتي من قوة وإمكانيات ومستحدثات لا يمكن أن يدفعوا عذاب القبر عن صاحب القبر وأرادوا مرة أن يقفوا على سؤال منكر ونكير، وفي بعض البلاد لا يوضع لحد ولا قبر إنما توجد غرف يضعون فيها الموتى، وهذا موجود في البقيع في حالة -عافانا الله وإياكم- الطوارئ، عندما يحدث موت بالجملة، ولا يستطيع الناس أن يحفروا حالاً لكل شخص قبراً، فيجعلون مكاناً واسعاً ويرصون فيه الموتى، وكل مقبرة كبيرة فيها شيء للطوارئ من هذا، فبعض البلدان يجعلون هذا للأسر، وقد تكون هناك بعض البلاد فيها تكليف، المهم جاءوا بجهاز تسجيل ووضعوه في تلك الغرفة وسحبوا السماعة إلى الخارج، وجلسوا ينتظرون ما يسمع بعدما دفنوا ميتهم، والمسجل يسجل، لكن لا يوجد أي شيء، إلى أن مضت أربعة وعشرون ساعة، ورجعوا فوجدوا المسجل على ما هو عليه، والشريط انتهى ولم يلتقط أي شيء.
إذاً: شيء فوق تصور العقل، والميت يسمع ويعقل، والأحاديث في سؤال القبر شبه المتواترة، ومن ينفي عذاب القبر يلزمه أن ينفي عذاب جهنم؛ لأن الحديث جاء بالاستعاذة منهما معاً، فإذا كان يؤمن بعذاب النار، ويستعيذ بالله من عذاب جهنم؛ فما الذي يجعله يمتنع من أن يثبت عذاب القبر، ويستعيذ بالله من عذاب القبر؟ إن أثبت هذا فليثبت هذا معه، وإن نفى هذا يلزمه أن ينفي الثاني معه، ولا أحد ينفيهما حتى أهل الكتاب.