نرجع إلى موضوعنا في فقه باب الآنية، وتقدم أن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة أخذ بالعموم، وأدخل جلد الكلب والخنزير، ووافقه الظاهري، أما، أبو حنيفة رحمه الله فأخرج من العموم جلد الخنزير، وادعى أنه ليس للخنزير جلد، والشافعي رحمه الله أخذ بالعموم وأخرج الخنزير، وقاس عليه الكلب؛ لأن الكلب عنده نجس كله، ومالك وأحمد أخذوا بعموم: (أيما إهاب) ولكن قالوا: يستعمل ظاهراً لا باطناً، وعلى هذا يكون الشافعي وأبو حنيفة وأحمد ومالك يقولون بطهارة جلود الميتة بعد دبغها على عموم: (أيما إهاب) ، ولم يستثنَ من ذلك إلا الخنزير والكلب عند الشافعي، وقال أحمد ومالك: يطهر ظاهراً لا باطناً، وعلى هذا يجوز استعماله في اليابسات دون المائعات، إلا أن المالكية يقولون: جلد الميتة يستعمل ظاهراً فقط في اليابسات فقط، ولا يستعمل في المائعات إلا في الماء؛ لأن الماء قوي يدفع النجاسة عن نفسه.
بعد هذا نرجع إلى هذه الأقوال لنرى ما هو الراجح منها؟ أما الذين أخذوا بالعموم فإن ظاهر النصوص معهم إلا ما ذكره أبو حنيفة رحمه الله من أن الآية الكريمة تنص على أن الخنزير رجس، وإذا كان نجساً في الحياة فبالموت من باب أولى، وكذلك الشافعي ألحق بالخنزير الكلب قياساً، وقد تطمئن النفس إلى الاستثناء، وقد تدعو الحاجة إلى التعميم على ما سيأتي إن شاء الله.
بقي عندنا رأي مالك والحنابلة: أنه يطهر ظاهراً لا باطناً، قالوا: الجلد إذا دبغ فالوجه الذي لامس الدباغة قد طهر بهذا الدباغ، أما مسام الجلد في الداخل فهذه لم ينفذ إليها الدباغ فلم تطهر، فيطهر ظاهراً لا باطناً، بمعنى: لو أنك افترشت جلد الميتة المدبوغ، وصليت عليه، تكون قد صليت مواجهاً للوجه الطاهر، لكن لو أنك حملته ولبسته وصليت فيه، لا تصح الصلاة؛ لأن ما داخل الجلد من المسام لم يطهر، فتكون مصلياً حاملاً لنجاسة داخل مسام هذا الجلد.
والمناقشة في ذلك بأن نقول: الإهاب يطهر ظاهراً وباطناً لما جاء في الحديث الأخير: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضئوا من مزادة امرأة مشركة) .
وهذا الحديث فيه تتمة البحث، والمزادة: هي القربة الكبيرة، قيل: من جلد البقر أو الإبل، بخلاف القربة فإنها من جلد الشاة أو الماعز، والقصة طويلة وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد من إحدى الغزوات ونفد الماء عليهم فأرسل علياً رضي الله تعالى عنه ورجلاً معه ليطلبا الماء، فمضيا من الصباح إلى قريب الزوال، فلم يجدا ماءً، فلقيتهم ظعينة راكبة بين مزادتين -امرأة على بعير لها يحمل مزادتيها- فسألاها: أين الماء؟ أي: من أين استقيت الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس الساعة -يعني: أمس هذا الوقت، وأنا أمشي من عنده، أي: أربعة وعشرين ساعة- فتشاورا، فقال أحدهما: ما يمكن أن نذهب هذا الوقت كله، ولكن نسوقها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما معها من الماء، فقالا لها: هلمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم! قالت: ذاك الصابئ! قيل لها: ذاك الذي تعنين، فلما حضرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخوا بعيرها وأنزلوها، وطلب إناءً فأفرغ من مزادة جزءاً من الماء، ثم قال: (اشربوا وتزودوا) ، فما بقي إنسان مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا وأتى بما عنده من قرب وسقاء أو إناء وملأه، وسقوا الخيل والإبل التي معهم، وما بقي إنسان إلا توضأ، حتى أن رجلاً بعد أن صلى النبي صلى الله عليه وسلم نظر إليه، فإذا به معتزلاً القوم، فقال: (مالك لم تصلِ؟ ألست مسلماً؟ قال: بلى، يا رسول الله! ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ماءً في إناء، ونادى الرجل فقال: خذ هذا فأفرغه عليك) ، وكان قد تيمم وصلى فأعطاه الماء ليغتسل، المهم أنهم أخذوا من المزادتين ما يملئ أوانيهم، ويشربوا في بطونهم ويتوضئون، ويغتسل الجنب فيهم، وتشرب دوابهم، ثم قال: (اجمعوا لها، فجمعوا لها من الطعام، ثم قال لها: انظري! لقد سقانا الله، وما نقصت مزادتاكِ شيئاً) فأركبوها على بعيرها، وحملوا لها ما جمعوا، وذهبت إلى قومها، فقالت: يا قوم! والله! لقد أتيتكم من عند رجل لئن كان ساحراً لهو أسحر عباد الله، ولئن كان نبياً لهو حق مرسلٌ من عند الله، وأخبرتهم بالخبر، وما أخذوا من الماء، وما أخبرها، ثم كان الصحابة يحفظون لها ذلك المعروف، فيغيرون على الأحياء من جوانبها ويتركون حيها التي هي منه، ثم قالت: يا قوم! والله! ما تنحى هؤلاء عنكم لقوة فيكم، ولا لضعف منهم، وإنهم يحفظون ذلك المعروف، فأسلموا تسلموا، ودعتهم إلى الإسلام فأسلموا.
والذي يهمنا هنا، أن هذا الماء الذي في المزادتين كان لامرأة مشركة، والمزادتان من أواني المشركين، وصنعوهما من دوابهم، وهم يذبحون، ولكن ذبيحة المشرك والوثني ميتة: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] ، يذبحون باسم الصنم، أو باسم الصليب أو غير ذلك، ومع أنها ميتة شرعاً، وقد دبغت، وفيها الماء؛ استعمله صلى الله عليه وآله سلم، فيرد بذلك على من يقول: إن الدباغ يطهر الإهاب ظاهراً لا باطناً؛ ولذا المالكية رووا هذه القصة فقالوا: يمكن أن يستعمل الجلد في خصوص الماء فقط؛ لأن الماء قويٌ يدفع عن نفسه، وقيل لهم: إن قضية شاة ميمونة في تتمته: (فأخذنا مسكها -يعني الإهاب- فدبغناه، فما زلنا ننبذ فيه حتى صار شناً) ، (ننبذ فيه) أي: نطرح التمر والزبيب مع الماء حتى يستحلب ويتحلى الماء بهذه الثمار ونشربه، و (شناً) أي: قديماً، فقد تغير عن كونه مطلق ماء، وأصبح نبيذاً، فضعف عن قوة الطرد الذاتية للماء، وبهذا يتم الاستدلال على طهارة ما دبغ ظاهراً وباطناً.
بقي مسألة: هل يقال بالعموم فيشمل مأكول اللحم وغير مأكول اللحم أم لا؟ الذين قالوا: لا يشمل غير المأكول قالوا: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مياثر النمور) ، والمياثر جمع ميثرة، وهي: شيء من اللبد من جلد النمر يجعل على السرج ويركبه الفارس، فنهى صلى الله عليه وسلم عن الركوب على جلود النمور، وهي غير مأكولة، وهي جلود مدبوغة، ونهى صلى الله عليه وسلم عن الركوب عليها، إذاً: هي لم تطهر.
وأجاب الآخرون عن ذلك وقالوا: إن النهي عن جلود النمور والمياثر ليس للنجاسة، ولكن لأن الركوب على جلود النمور من أفعال العجم، وهو يورث الكبرياء والخيلاء، فنهى صلى الله عليه وسلم عن ركوبها تجنباً لهذه الحالة، وامتناعاً من مشابهة غير المسلمين، ولو كان نجساً ما سمح باستعماله مطلقاً لا في سفر ولا في حضر.
إذاً: يترجح عندنا العموم في كل ميتة، وإذا دبغ جلدها فإنه يطهر، ويبقى عندنا: الكلب والخنزير فقط، وهما محل النزاع؛ فمن قال بالعموم -كما يقول الشوكاني - فظاهر النصوص معه، ومن استثناهما فهناك الشبهة، ومنذ عشر سنوات تقريباً جاءني بعض الإخوان الذين يستوردون الأحذية من روسيا -أو من المعسكر الروسي- وقال: إن بعض الأحذية مصنوعة من جلود الخنازير، ماذا نفعل بها؟ هل نردها؟ أو نمنع استعمالها؟ وصناعة الجلود قد توسعوا فيها، فيصنعون منها حقائب ونعالاً وأدوات أخرى، بل ملبوسات كالفرو، ولما توسعت الصناعات الجلدية فمن قال بالعموم تيسيراً على الناس فلا مانع من ذلك، ولكن من عرف بذاته أن هذا من الخنزير فتركه لكان أولى، ولكن لو استعمله غيره فلا ينبغي له الإنكار عليه، هذا ما يتعلق بهذه الجلود.
وقوله: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) هناك تساؤل عن ماهية الدباغ، وأشرنا إلى أن الحديث يقول: يطهره الماء والقرظ) والقرظ قيل: هو ورق السدر، والبعض الآخر يقول: هو ثمرة قوية لبعض الشجر، أي: ذات حمضيات شديدة، وهذا القرظ إذا طحنته أو دققته واستكت به؛ فإنه يشد اللثة المرتخية، ويخرج الرطوبة منها، فهو علاج للثة؛ لشدته وقوته، وبعضهم يدبغ بدلاً من القرظ بقشر الرمان؛ لأن فيه قوة، وفيه مادة تشد الجلد، وتسحب منه الرطوبة، وبعضهم يدبغ: بالتراب والملح، ولكن كما يقول بعض العلماء: المسألة راجعة إلى ما يطهر الجلد، وإلى ما يدبغه ويلينه، وهذا يرجع إلى نوع الصناعة، فبعضهم يدخل الخل، وبعضهم يدخل الملح، وبعضهم يدخل الحناء،وبعضهم يكتفي بالتراب فأية مادةٍ تعارف عليها الناس، وجُرب أنها تدبغ الجلد، فإنه دباغ يطهر جلد الميتة.