بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: قال رحمه الله تعالى: [وعن ميمونة رضي الله تعالى عنها قالت: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة يجرونها، فقال: لو أخذتم إهابها؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال: يطهرها الماء والقرظ) أخرجه أبو داود والنسائي] .
حديث شاة ميمونة فيه مباحث متعددة: وجاءت الروايات: (أن شاة لـ ميمونة) ، (شاة لبعض زوجاته) ، (شاةً ماتت) ، (مر بشاة يجرونها) إلخ، والظاهر أنها لـ ميمونة رضي الله تعالى عنها، وفي بعض النصوص أن الشاة اسمها فلانة، وذكر لها اسماً، وهذا كان معهوداً عند أصحاب المدينة حتى اليوم، قل أن تجد بيتاً إلا وفيه غنمة أو غنمتين، وكان أهل البيوت يطلقون أسماءً على الأغنام، بحيث لو نادت صاحبة البيت الغنمة وهي في الشارع، جاءتها فحلبتها أو أطعمتها وسقتها، بل أغرب من هذا كنا نلاحظ أن المرأة في البيت تصفق، فإذا غنمتها تعرف صفقتها فتأتي إليها، وكان هذا موجوداً.
نشرح الحديث كلمة كلمة: قوله: (شاةً) الشاة: هي أنثى الضأن، من: الغنم.
(ماتت) : أي: لم تدرَك فتذكى، فهي ميتة، وهناك عموم: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة:3] ، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو رآهم يجرونها، فقال: (هلا) ، وهلا: تستعمل للحض، فتقول مثلاً: هلا فعلت كذا هلا قلت كذا وهو حض على الفعل.
(هلا أخذتم إهابها) الإهاب هو: الجلد قبل الدبغ، وهو عام في كل جلد لم يدبغ، وادعى البعض بأن كلمة (إهاب) خاصة بالجلد قبل الدبغ لمأكول اللحم، ولكن علماء اللغة يردون هذا التخصيص ويقولون: بل هو عام في كل جلد قبل أن يدبغ، فإذا دبغ لا يقال له: إهاب.
(هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به) ، أخذ بعض العلماء -غير الأئمة الأربعة- من هذا جواز الانتفاع بجلود الميتة ولو لم تدبغ؛ لأنه قال: (فانتفعتم به) ، ولكن الرواية تؤخذ بكاملها، فكونهم أجابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: إنها ميتة، وقولهم هذا يستدل منه أنهم رضي الله تعالى عنهم أخذوا حكم الميتة للمسك -الجلد-، والميتة تنجس بالموت، فيحرم لحمها، وإذا وقعت في الماء نجسته، فلحم الميتة نجس: مأكولة أو غير مأكولة، حتى غير المأكول لو ذكي فهو نجس، فأخذوا من الحديث نجاسة الميتة، وسحبوا الحكم على جلدها لأنه جزء منها، والرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم على هذا الاستنتاج، وأيضاً قولهم: إنها ميتة، يدل بدلالة الالتزام بأنه نجس؛ لأن الميتة نجسة، وجلد الميتة جزء منها فهو نجس، وقد أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل أنه أرشدهم إلى ما يطهر نجاسة الجلد، فقال: (يطهره) ولم يقل: يبيحه أو يحله، وفي بعض الروايات: (إنكم لم تأكلوا لحمها، ولم تأكلوا الجلد) ، لكن تهمنا الرواية المشهورة التي عندنا، وكونهم فهموا من الميتة نجاستها، وألحقوا الجلد بالشاة، وأقرهم صلى الله عليه وسلم على هذا الاستنتاج، وأفتاهم بمقتضى ما فهموا، وكأنهم قالوا: ما الذي يطهر هذه النجاسة؟ فقال: (يطهره الماء والقرظ) ، والماء والقرظ يحصل بهما الدباغ، ولو حصل الدباغ بغير هذين فلا مانع، وليست الطهارة في الجلد -الإهاب- مقصورة على الماء والقرظ، بل كل دباغ مطهر لقوله: (أيما إهاب دبغ) ، وقوله: (دباغ جلود الميتة طهورها) ، لكنه هنا ذكر صنفاً من أصناف المواد المستخدمة في الدباغ التي تطهر الجلد.
وقوله: (يطهره) أي: من النجاسة، (الماء والقرظ) وعلى هذا -من ناحية الفقه- أخذ بعض العلماء: أن الشاة الأصل فيها أنها مأكولة اللحم، ولما كانت ميتة، وتنجس الجلد بموتها، وجاء القرظ والماء يطهر الجلد، قالوا: صورة السبب شاة، والشاة مأكولة، فيكون طهور جلد الميتة بالدباغ لكل مأكولة اللحم كالشاة ونحوها؛ لأنها صورة السبب في مأكولة اللحم، ولذا يقول البعض: أن الدباغ يطهر جلود الميتة مأكولة اللحم فقط.
ويجاب عن هذا: بأن التخصيص بصورة السبب لا يتأتى؛ لأن العبرة -عند الأصوليين- بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، واللفظ جاء بالعموم: (أيما إهاب) ، وجاء: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) .
إذاً: وجدت صيغ العموم فشملت مأكول اللحم.